الصفحة الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

وقفات مع الصيام وفضائله وآدابه من رياض الصالحين

الكاتب : الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد:

أولًا: الصيام فرضيته وفضيلته وحكمته وآثاره:

أ - أما القرآن الكريم:

فإن المتأمل للقرآن الكريم، يجد أن الله تعالى قد افترض على عباده المؤمنين المتقين "صيام شهر رمضان"، ورغبهم في ذلك وحثهم عليه، وبين لهم حكمة الصيام فيه، كما بين لهم فضيلة هذا الشهر المبارك ومكانته، كما قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

فالآيات الكريمات قد استهلت الحديث بالنداء لأهل الإيمان الخالص بأن الله تعالى قد افترض عليهم الصيام كما افترضه على الأمم السابقة، ولهذا وجب عليهم امتثال الأمر الإلهي لما اشتمل عليه من تحقيق العبودية لله تعالى، وتحقيق التقوى بطاعة الله وامتثال أمره وكف النفس عن الشهوات والمحرمات.

والصيام في لغة العرب: هو الإمساك.

وفي الشرع: إمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، بنية خاصة، في وقت خاص، والمفطرات كالأكل والشرب والجماع بين الزوجين ونحوها، مع كف النفس عما حرم الله ورسوله.

فالصوم على حقيقته تهذيب وضبط لغرائز الإنسان الكامنة فيه، كغريزة الطعام والشراب، وغريزة الشهوة والجماع، وغريزة التملك والحرص، كما أنه كسر ودفع لمداخل الشيطان على الإنسان، وحفظ للجوارح والأركان، وكما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به. قال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له".

يقول أبو حامد الغَزالي - رحمه الله - صاحب "الإحياء": "الصيام زكاةٌ للنَّفْس، ورياضة للجسم، وداعٍ للبِر؛ فهو للإنسان وقاية، وللجماعة صيانة، في جوع الجسم صَفاءُ القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة؛ لأنَّ الشِّبَع يُورث البَلادةَ، ويعْمِي القلب، ويُكْثِر الشِّجار في الدماغ فيتبلَّد الذِّهن، والصبي إذا ما كثر أكْله بَطل حِفْظه، وفسد ذهنه، أحْيُوا قلوبكم بقلَّة الضحك وقلَّة الشِّبع، وطهِّروها بالجوع تَصْفُ وتَرق".

ويقول أحمد شوقي "أمير الشعراء": "الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وعرف المترف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع".

ولهذا لو تأملنا قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، لظهر لنا حكمة الصيام العظمى، في بناء القلب والنفس والأخلاق، وصقلها مرة كل عام في أيام معدودات، تجلي عن النفس غبار الهوى والمعصية من جانب، وغبار اللهث وراء لذات الجسد المادية دون نظر أو اعتبار من جانب آخر، ولهذا قال الإمام ابن كثير الدمشقي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:

"يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [المائدة: 48]؛ ولهذا قال هاهنا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزو؛ج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" انتهى.

ومن هنا فإن حكمة الصيام وآثاره في النفس والمجتمع؛ تتجلى في كونه فريضة وفضيلة عظيمة في إصلاح النفس وتهذيبها واستقامتها، ومنهجًا ربانيًا لتقويم الأخلاق وتوجيهها، وهذا يتجلى في حكمة الصيام الأسمى، والمتمثلة في تحقيق التقوى في النفس والعمل.

لأن في الصيام تعويد للنفس على المجاهدة والمصابرة على الطاعة لله ورسوله، ومنع النفس عن بعض الحلال بعض الوقت كالطعام والشراب ولقاء الزوجة.

وفي الصيام تهذيب للجوارح والسلوك وذلك بالابتعاد عن مواطن المعصية والزلل، والإعراض عن فعل ما يُذهب العبادة جمالها وخشوعها وثوابها من اللغو والرفث والصخب والسباب والغيبة والنميمة والكذب وغيرها.

وفي الصيام إشعار للأغنياء ذوي الثراء والبذخ بحاجة المحرومين من الفقراء المعوزين، والمساكين والمحتاجين في المجتمع من حولهم، والتخلص من أدواء الأثرة والشح والحرص، وحسب ابن آدم لقيمات من الطعام يقمن صلبه كما في الحديث.

وفي الصيام تحقيق العبودية لله تعالى بالسمع والطاعة والخشية والمراقبة، وكذلك بمراعاة آداب الصيام النبوية من تناول السحور والتلاوة والقيام والدعاء والذكر والجود والكرم وبذل الصدقات، فكل هذا لا يكون إلا في مدرسة الصيام التهذيبية الربانية.

وفي هذا المعنى الكبير يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "المقصود من الصيام حبْسُ النفس عن الشَّهوات، وفطامها عن المألوفات، وتَعديل قوَّتِها الشَّهْوانية؛ لتستعدَّ لطَلَبِ ما فيه غايةُ سعادتِها ونعيمِها، وقَبُول ما تَزكو به ممَّا فيه حياتها الأبديَّة، ويَكْسر الجوع والظَّمأ من حِدَّتِها وسورتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مَجاري الشياطين من العباد بتضييق مَجاري الطعام والشراب، وتَحبس قُوَى الأعضاء عن استرسالِها لحكْم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها، ويسكِّن كل عضو فيها، وكل قوَّة عن جِمَاحه، وتلْجم بلجامه، فهو لِجَام المتَّقين، وجنَّة المتحابِّين، ورياضة الأبرار المقرَّبين".

ولهذا فإن الرعيل الأول من الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان، لما تحققت فيهم هذه التربية الربانية الفريدة، وهذا الإصلاح النفسي والمادي معًا، استطاعوا بناء المجتمع والأخلاق، واستطاعوا قيادة النفوس والقلوب لله ورسوله، واستطاعوا خوض الملاحم والفتوحات والغزوات، واستطاعوا فتح العالم بهذا الدين، ونشر تعاليم الإسلام والنبوة في شتى أرجاء الأرض.

لأن نفوسهم قد سمت عن الدنيا والدنايا، وقلوبهم قد استقامت على السمع والطاعة، وجوارحهم قد سلمت من الغي والانحراف، فمكن الله لهم، وأعلى سبيلهم ومكانهم.

أما الذين أعرضوا عن تحقيق غاية تلك العبادة، واستثقلوا القيام بها مع يسرها، وفتحوا الطريق أمام النفس بتركها، فذهبوا يعبثون في نهارهم بالنوم تارة، وبقتل الأوقات في مشاهدة الأفلام والمسلسلات الهابطة، وسماع الأغاني التي حرمها الله ورسوله تارة، وبمجالس الغيبة والنميمة تارة، وباللهو واللعب بالنرد والقمار تارة، وبالسهر والتسكع على المقاهي تارة، وبالخروج إلى الأسواق والمنتديات العامة والاحتكاك بالكاسيات العاريات تارة، فأولئك ما عرفوا حق الله عليهم، ولا حكمة خلقهم ووجودهم، فهؤلاء يضيع عليهم هذا البناء التربوي الشامح للنفس وإصلاحها في أيام معدودات، ولا يحققون منه ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الغافلون.

ولهذا الصنف من العالمين الغافلين، يقول الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة‏.‏ ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل‏، ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور، بما لا يعجز عنه البدن من العمل، وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات‏،‏ فنُقل عن عامر بن عبد قيس، أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس! وقال ابن ثابت البناني‏:‏ ذهبت ألقن أبي، فقال‏:‏ يا بني دعني فإني في وردي السادس‏،‏ ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له‏،‏ فقال‏:‏ الآن تطوى صحيفتي‏".‏

ب - وأما السنة النبوية:

فقد تكاثرت فيها النصوص عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيان فرضية صيام شهر رمضان وفضيلته وخصائصه، وبيان مكانته ورفعته على سائر الشهور، بما خصه الله به وفضله، ولا شك أن نزول القرآن فيه من أجل الفضائل وأعلاها، كما جاء عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 1 - 3] الحديث بطوله في الصحيحين، ومن ذلك أيضًا:

1- احتفاء كوني بقدوم شهر رمضان: فقد بين النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - احتفاء الكون بقدوم شهر رمضان بإذن ربه ومليكه، وذلك بأن تفتح فيه أبواب الجنة رحمة من الله لعباده، وتغلق أبواب النيران، وتسلسل فيه مردة الشياطين والجن، ليكون العبد في حالة من الصفاء والاستعداد النفسي، لتهذيب نفسه ومحاسبتها، وليكون أقدر على القرب من رحمة الله وجنته، فيسلك سبيل الصالحين والمتقين، ويترك سبيل الكافرين والفاسقين، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

2- فرضية الصيام ووجوبه: وكذلك ما جاء في فرضية الصيام ووجوبه، وأنه أحد الأركان الخمسة لدين الإسلام، والذي لا يتم كمال الإسلام إلا به، ولا يقوم إلا عليه، كما جاء في الصَّحيحين من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((بُنِيَ الإسلام على خمسٍ؛ شهادةِ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت))؛ متَّفَق عليه.

3- الترغيب في صيام شهر رمضان: كما رغب في صيام شهر رمضان، ورتب على ذلك مغفرة الذنوب والسيئات، إذا أحسن العبد الصيام تصديقًا بوجوبه، وطلبًا لأجره وثوابه، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل اللَّه إلا باعد اللَّه بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

4- العتق من النار في رمضان: وكذلك يعتق الله تعالى فيه خلقًا كثيرًا من عذاب النار، وذلك كل ليلة من لياليه، كما جاء في الحديث: "إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومَرَدَة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عُتقاء من النار وذلك كل ليلة". وحسنه الألباني. وفيه عند ابن ماجه من رواية جابر - رضي الله عنه -: "إن لله عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة".

5- صيام رمضان كفارة للذنوب: كما جعل صيام رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، إذا اجتهد العبد في حفظ النفس عن مقارفة الكبائر من المعاصي والمحرمات، وكف الجوارح عن الوقوع في الآثام، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم.

6- العمرة فيه تعدل حجة: كما جعل العمرة في شهر رمضان تعدل في عظم ثوابها حجة، كما في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة معي".

7- صيام يعدل الدهر: كما بينت السنة النبوية أن صيام رمضان وإتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر، وهذه وحدها فضيلة عظيمة لأصحاب الهمم العالية، كما في الحديث عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر" رَوَاهُ مُسلِمٌ.

8- شفاعة الصيام يوم القيامة: كما بينت السنة النبوية أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، وكفى بهذا فضلًا وشرفًا وتكريمًا للصائمين، كما جاء عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان". رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع والطبراني في الكبير والحاكم واللفظ له وقال صحيح على شرط مسلم كما أثبته العلامة الألباني - رحمه الله -.

•        •        •

ثانيًا: مسائل وآداب يحتاج إليها الصائمون:

كما بينت السنة النبوية كثيرًا من المسائل والآداب التي يحتاج إلي معرفتها الصائم في نهاره وليله، ونشير هنا إلى بعضها وأهمها:

1- بيان فضيلة السحور واستحباب تأخيره: ما لم يخش طلوع الفجر، أو يكن لديه عذر، فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "تسحروا فإن في السحور بركة" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن زيد بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: تسحرنا مع رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قمنا إلى الصلاة. قيل: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسون آية. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما قال كان لرَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن عمرو بن العاص رَضيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" رَوَاهُ مُسلِمٌ.

2- ومن ذلك: بيان فضل تعجيل الفطر، وما يفطر عليه الصائم: وما يقوله بعد إفطاره، فعن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها فقال لها مسروق: رجلان من أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلاهما لا يألو عن الخير: أحدهما يعجل المغرب والإفطار، والآخر يؤخر المغرب والإفطار. فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟ قال: عبد اللَّه (يعني ابن مسعود) فقالت: هكذا كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصنع. رَوَاهُ مُسلِمٌ. قوله "لا يألو": أي لا يقصر في الخير.

وعن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن أبي إبراهيم عبد اللَّه بن أبي أوفى رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: سرنا مع رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو صائم فلما غربت الشمس قال لبعض القوم: "يا فلان انزل فَاجْدَح لنا" فقال: يا رَسُول اللَّهِ لو أمسيت؟ قال: "انزل فَاجْدَح لنا" قال: إن عليك نهاراً، قال: "انزل فَاجْدَح لنا" قال: فنزل فَجَدَحَ لهم، فشرب رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم" وأشار بيده قبل المشرق. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ. قال النووي - رحمه الله -: قوله "اجْدَح" بالجيم ثم دال ثم حاء مهملتين: أي اخلط السويق بالماء.

وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات؛ فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء. رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

3- ومن ذلك: فضل من فطر صائماً، وفضل الصائم الذي يؤكل عنده: ودعاء الآكل للمأكول عنده، فقد جاء في الحديث عن زيد بن خالد الجهني رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاء إلى سعد بن عبادة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فجاء بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بإسناد صحيح.

4- ومن ذلك: استحباب الدعاء عند الإفطار: فقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا أفطر يقول: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وقد ورد هذا الحديث بطرق ضعيفة، لكن من أهل العلم من حسنه كالعلامة الألباني.

5- ومن ذلك: بيان فضل القرآن واستحباب الإكثار من تلاوته في شهر رمضان: لأنه شهر نزول وحي القرآن، كما قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]. وكما في الحديث الصحيح: "وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن".

6- ومن ذلك: بيان فضيلة الجود وفعل المعروف والصدقة: والإكثار من فعل الخير في شهر رمضان، ومدارسة القرآن وتلاوته، وقيام الليل فيه، والزيادة من ذلك في العشر الأواخر منه، فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فلرَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن أبي هريرة رَضيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "من أنفق زوجين في سبيل اللَّه نودي من أبواب الجنة: يا عبد اللَّه هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة"، قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: بأبي أنت وأمي يا رَسُول اللَّهِ ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال: "نعم وأرجو أن تكون منهم" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

7- ومن ذلك: حفظ النفس والجوارح عن كل ما يقدح في الصيام ويذهب بأجره وثوابه، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "قال اللَّه عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم؛ والذي نفس محمد بيده لَخُلُوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ. وهذا لفظ رواية البخاري.

وفي رواية لمسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللَّه تعالى: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي" للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه؛ ولَخُلُوف فيه أطيب عند اللَّه من ريح المسك". وهذا لا يتحقق للصائم إلا بالصبر والمجاهدة للنفس، وترويضها على الطاعة وترك ما حرم الله ورسوله.

كما قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: "وأفضل أنواع الصبر: الصيام؛ فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معاصي الله؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"، وفيه أيضاً: صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش" انتهى .

كما بينت السنة النبوية أن الوقوع في فعل المحرمات قد يذهب بثواب الصيام وأجره وبركته، كما جاء عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

ولهذا أمر الصائم ألا يقع في مخالفة أو محذور أو عصيان، لئلا تفسد عليه عبادته، وتضيع الثمرة المرجوة من وراءها كما في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم". لأن المجازفة بالرد بالمثل يفضي إلى نقص في ميزان الخلق، وضبط النفس، أما التذكير بقوله "إني صائم" فهو نوع من النصيحة للآخر، والتوجيه والإرشاد للتي هي أحسن، في دفع السيئة وردها بالحسنة والنصيحة.

8- ومن ذلك: بيان استحباب وفضيلة قيام الليل في شهر رمضان وهو التراويح: وأنه من أسباب المغفرة للذنوب وتكفير السيئات، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رَوَاهُ مُسلِمٌ.

9- ومن ذلك: بيان فضيلة قيام ليلة القدر خاصة: وبيان أرجى لياليها التي تطلب فيها، والتي يستحب الاجتهاد في العبادة فيها من التلاوة والذكر والدعاء، وقد بين الله شرف ليلة القدر بإنزال القرآن فيها على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" .. إلى آخر السورة، وقال تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة"، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رجالاً من أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنها أن رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت قلت: يا رَسُول اللَّهِ أرأيت إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

10- ومن ذلك: بيان فضيلة الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان: وبيان حال النبي - صلى الله عليه وسلم فيها - من علو الهمة، وكثرة القيام والذكر والتلاوة والطاعة لله تعالى، فعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما قال: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللَّه عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره. رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض اعتكف عشرين يوماً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

11- ومن ذلك: إتمام الصيام إذا أكل أو شرب ناسيًا: وأن ذلك لا يبطل الصيام ولا يلزمه القضاء على أصح أقوال أهل العلم، كما جاء عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه اللَّه وسقاه" مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

12- ومن ذلك المبالغة النهي عن المبالغة في الاستنشاق في الوضوء أثناء الصيام، حذر وصول الماء إلى جوف الصائم، فعن لقيط بن صَبِرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال قلت: يا رَسُول اللَّهِ أخبرني عن الوضوء؟ قال: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح.

13- ومن ذلك: جواز تأخير غسل الجماع في ليل رمضان إلى الفجر: وأن ذلك لا يؤثر على الصيام، لكونه وقع قبل الفجر لا بعده، فعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها وأم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالتا: كان رَسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم. مُتَّفّقٌ عَلَيهِ.

14- ومن ذلك: إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، وذلك بيوم أو يومين، ليستفيد منها الفقير والمسكين، ولتكون عونًا وتطهيرًا للصائم فيما وقع في صيامه من نقص أو زلل، كما في سنن أبي داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمسكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقة.

هذه بعض الآداب والفضائل الثابتة في الكتاب والسنة، والتي ينبغي على المسلم الصائم مراعاتها والعمل بها، حتى تتحقق له غاية العبودية والتقوى في تهذيب النفس وإصلاحها، وحتى لا يقع في الغفلة والحرمان، ولهذا ينادي ابن الجوزي الإمام - رحمه الله - في "بُستان الواعظِين" على أهل الغفلة والحرمان بقوله: "يَا غافل يَا ساهي، أَتَاك شهر رَمَضَان المتضمن للرحمة والغفران، وَأَنت مصرٌ على الذُّنُوب والعصيان، مُقيمٌ على الآثام والعدوان، متمادي فِي الْجَهَالَة والطغيان!

متكلم بالغيبة والبهتان، متعرض لسخط الرَّحْمَن، قد تمكن من قَلْبك الشَّيْطَان، فألقى فِيهِ الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان فأنساك نعيم الْخلد والجنان، فظللت تعْمل أَعمال أهل النيرَان!

فَإِن كنت يَا مِسْكين كَذَلِك، فَكيف ترجو الْفَوْز بالرضوان، والحلول فِي دَار الْخلد والأمان والخلاص من دَار الْعقُوبَة والهوان!

وَأَنت مطعمك حرَام، ولباسك حرَام! وَلِسَانك لَا يفتر عَن قَبِيح الْكَلَام!

وبصرك حَدِيد إِلَى مَا حرم من الْحَرَام عَلَيْك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام!

ويدك ممدودة إِلَى مَا نهاك عَنهُ الْملك العلام!

وقدمك تسْعَى إِلَى مَا هُوَ إِثْم وَحرَام!

وَأَنت فِي جَمِيع أمورك وأفعالك مُخَالف لِلْقُرْآنِ وَالْأَحْكَام!

تَارِك لسنة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام!

فجسمك من الْجُوع متعوب من الْفجْر إِلَى الْغُرُوب، ويلحقك النصب واللغوب، وصومك عَن مَوْلَاك بالطرد مَحْجُوب، وأخاف أَن تكون فِي النَّار على وَجهك مكبوب لمخالفتك لعلام الغيوب.

فخمص وَيحك بَطْنك عَن أكل الرِّبَا وَالْحرَام، واحبس لسَانك عَن الْوُقُوع فِي جمَاعَة الْإِسْلَام.. وغض طرفك عَمَّا هُوَ عَلَيْك أعظم من أعظم الآثام، وَهُوَ النّظر إِلَى مَا لَا يحل لَك من حرم الْأَنَام، وامتثل مَا أَمرك بِهِ أحكم الْحُكَّام..

وقم بَين يَدَيْهِ فِي اللَّيْل البهيم إِذا هجع النوام، وتضرع إِلَيْهِ إِذا أدهم اللَّيْل بداجي الظلام..

وَحِينَئِذٍ يَصح لَك الْقبُول لشهر رَمَضَان، وتفوز بالنعيم الأبدي فِي دَار السَّلَام، وتنجو من الْأَهْوَال وَالْعَذَاب الغرام..". أهـ.

نشر في شبكة الألوكة

   

    الصفحة الرئيسية  اا  تواصل معنا

  العودة إلى الخلف          اطبع هذه الصفحة أضف هذا الموقع للمفضلة لديك