الصفحة الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

المنهج السلفي وموقف المعادين والمخالفين

الكاتب : الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. 

أما بعد:

 

*المعادون للمنهج السلفي:

لقد وقف أمام المنهج السلفي ودعوته الصافية، -التي تمثل منظومةً شاملة كاملة في جميع الحياة البشرية عقيدةً، وعبادة، وأخلاقًا، ونظمًا، اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، لأنه من عند الله وحده: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء من الآية:82]- فريقان معاصران:

 

الفريق الأول: المدرسة العقلانية:

وهي تيارٌ فكري فلسفي متفاوت فيما ينطلق منه من مسلماتٍ وينتهي إليه من نتائج، يرى أن العقل هو المصدر الرئيسي للمعرفة الصحيحة، مع تأخير الاعتماد على النقل والحس، ويعتمد على تأويل النصوص بتأويلاتٍ فيها نظر، ويعود أصلها إلى الفلسفة اليونانية القديمة، حيث ظهرت على يد فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، وفي الإسلام، كان للمعتزلة دورٌ في تطوير العقلانية، حيث اعتمدوا على العقل في تفكيرهم، مما أدى إلى تأويلهم للنصوص الدينية التي تخالف آرائهم.

وتقوم هذه المدرسة كما ذكر أحد الباحثين على نقاط جوهرية منها:

1- إعطاء العقل أكثر من حقه، وكلفته ما لا يطيق، ورفعه إلى مرتبة الوحي.

2- تأويل الحقائق الإسلامية بما يتماشى مع الأحكام العقلية ومكتشفات الحضارة الغربية.

3- تبرير تناول الحضارة الغربية ومجاراتها في مدنيتها الزائفة.

هذه المدرسة العقلانية تنوعت آرائها ومذاهبها في بين موقفها من المنهج السلفي، حتى وصلت -بسبب اعتمادها على العقل وحده دون الوحي المعصوم أو بالتأويل المخالف- إلى حدٍ كبير أحيانًا من التناقض والاختلاف، وزعم أصحابها أن المنهج السلفي ما هو: إلا مذهبٌ جديد مبتدع في الدين، والتمذهب به بدعة، فهو لا يعني إلا مرحلة زمنية وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وأنه ليس في الإسلام طائفةٌ متميزة تُسمى بالسلفية.

وقالوا كذلك: بأن الالتزام في العصر الحاضر بالمنهج السلفي الذي سار عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين أمرٌ لا موجب له، لأن هذا المنهج إنما هو موقفٌ اجتهادي منهم، ولا يلزم غيرهم الأخذ به، وأن السلف أهل السنة والجماعة يتنكرون للعقل ويحطون من شأنه، وينحون به جانباً، ويُنكرون استخدام القياس العقلي، ويحكمون بالضعف أو الوضع على كل ما ورد في فضل العقل من أحاديث! والقائلون بهذا يعتمدون على الجمع التراثي من المذاهب والفرق جميعًا.

أما الذين اتخذوا موقف التحديث في الفكر الإسلامي المعاصر من هذه المدرسة العقلانية، فقالوا: بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى سنةٍ تشريعية يلزم العمل بها، وسنةٍ غير تشريعية لا يلزم العمل بها، وأنه يدخل في القسم الثاني مسائل باب (المعاملات) في الفقه الإسلامي، لأنه من أمور دنيانا التي نحن أعلم بها، كما يدخل فيه تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في القضاء والإمامة.

وقالوا أيضًا: أن قضايا الاعتقاد مسائل فكرية، وأن الفكر يتغير بتغير الزمان والمكان، فالعقيدة إذن متجددةٌ متغيرة وعلى المسلمين أن يختاروا ما يناسبهم من المناهج بحسب الظروف والملابسات التي يعيشونها، وقالوا أيضًا: أن أصول الفقه علمٌ مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، وأنه نظرٌ مجرد، كله مبالغة في التشعيب والتعقيد بغير طائل، ومقولاتٌ نظرية عقيمة لا تلد فقهًا البتة، بل تُولِّد جدلاً لا يتناهى!

وقالوا أيضًا: أن الأحكام تتغير بتغير الزمان، وأنه لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات والظروف والأحوال المختلفة المتباينة إلا بتأسيس معقولية الأحكام الشرعية، وذلك: باتخاذ تحقيق المصالح أساسًا للتشريع، وبجعل دوران الحكم الشرعي مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة، وبربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها.

والمتأمل حقيقةً لهذه الأقاويل والنزعات العقلية، يتبين له أن العقل البشري عقلٌ قاصر عن إيجاد حلولٍ ثابتة وصالحة لكل الأزمان والأجيال والأعصار، والأخطر من ذلك في مسلكهم هذا ذوبان الشريعة الإسلامية وأحكامها على مر العصور، حيث أننا لو تعاملنا مع نصوص الكتاب والسنة كما تقدم آنفاً بهذا المنطق المنعزل عن فهم الوحي وفق المراد الرباني والنبوي الصحيح، لأدى ذلك إلى نقصان الأحكام الشرعية في شتى مجالات الحياة سياسيةٍ كانت أو اقتصادية أو أخلاقية أو تعبدية أو عقدية أيضًا، ولأدى إلى ذوبانها على مر العصور والأزمان فرأينا شريعة وأحكاماً متناقضة تمامًا مع الوحي المعصوم من الكتاب والسنة.

لأن هذه المدرسة وقفت من نصوص الوحيين المعصومين موقفًا متناقضًا، حيث قالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل على النقل، ولا ريب أن هذا سخفٌ من القول وضلال، إذ إن موجب العقل يقتضي خلاف ما ذهبوا إليه، لأن الله تعالى ما أوجد العقل ليتناقض مع وحيه المنزل، هذا من وجه، أما الوجه الآخر فإن نصوص الكتاب والسنة لا يكون فيها اختلافٌ ولا تعارض في الأصل، لأن الله تعالى لا يجمع في شريعته ودينه ما يخالف بعضه بعضًا وينقض بعضه بعضًا، إنما التعارض في قصور الفهم الصحيح لمراد الله تعالى ومراد رسوله، وقد تكلم المحدثون والفقهاء والأصوليون في هذه المسائل وبينوا طرقًا كثيرة في رفع توهم التعارض بين النصوص الشرعية.

وأما الوجه الثالث: أنهم ما حققوا الإيمان والتسليم لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إن العقل يقتضي أن التسليم والإذعان من كمال الإيمان بالوحيين الصافيين القرآن والسنة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينا ﴾ [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى :﴿ َفلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، وقول على بن أبي طالب رضي الله عنه أن الدين لو كان بالعقل لكان المسح على الخفين من أسفل.

فهذه المدرسة العقلية لا تحمل منهجا عقيديًا صحيحًا واضحًا تقدمه لأتباعها والمخدوعين بها، ولا تحسن إلى اليوم إلا ضربًا من علوم المناطقة والفلاسفة، الذين عارضوا الشرائع بالآراء والفلسفات الكلامية، وهم يظنون أنهم على باب من العلم لا يحسنه غيرهم، فأنكر طائفةٌ منهم بعض الغيبيات كالملائكة وعذاب القبر ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية، ومنهم من وقع في التأويل الباطل الذي ليس له من الشرع دليلٌ ولا برهان.

 

الفريق الثاني: المدرسة التغريبية:

وهي تيارٌ فكري يقوم على نقل الثقافة الغربية إلى البلاد الإسلامية والعربية، والعمل على تذويب الهوية الإسلامية في تلك الثقافات الغربية، وفصل الدين عن الدولة، وفرض نمط الحياة الغربية عليها، وإلغاء الشخصية الإسلامية المتميزة المستقلة في دينها وثقافتها وسلوكها وخصائصها، ويضم العديد من التيارات والمذاهب الفكرية كالعلمانية والليبرالية والحداثة والديمقراطية، والوجودية، والإنسانية، والماركسية الشيوعية، وغيرها، وقد بدأت هذه المدرسة التغريبية في العالم الإسلامي مع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، ولا زالت الأمة تعاني من ويلاتها إلى اليوم.

أما موقفهم من المنهج السلفي فقد خلطوا كثيرًا وتخبطوا كمن سبقوا في فهمهم لحقيقة السلفية ومذهب السلف، فقد أدخلوا كل منتمٍ إلى الإسلام تحت أي مسمىً في مفهوم السلف والسلفية دون تمييز منهم بين المناهج والمعتقدات والتصورات، وهذا مسلكٌ خطير حيث يبن عورهم العلمي، وجهلهم التاريخي سواء للسلفية أو سائر الفرق المنسوبة للإسلام.

لأنهم بنوا طريقة تعاملهم مع السلفية على ما نشأ عندهم في القرون الوسطى المظلمة، حيث كان رجال الكنيسة والمعبد، الذين لا يحسنون قيادة الحياة ومواكبة الركب الحضاري، لأنهم كانوا منشغلين بكنائسهم ومعابدهم وطقوسهم، ومن هنا نشأت دائرة الانفصام بين الدين والدنيا عندهم، واعتقدوا بذلك أن سبب كل تخلفٍ عن ركب المدنية والحضارة، إنما منشأه من التدين والدين، فصارت العلمانية والتمرد على القيم والانفتاح المنفلت هي شعارات التقدم والرقي للمدنية المزعومة، ومن ثم تعامل هؤلاء مع المنهج السلفي الإسلامي بنفس المعطيات والآفات، فحكموا عليها وعلى أتباعها وأنصارها، والداعين إليها بأنهم من الذين يريدون عودة العالم من جديدٍ إلى عصور الظلام والجهل والتخلف، فوسموها بالتخلف والرجعية والتأخر عن مواكبة مستجدات الواقع المعاصر، مع أن السلفية الإسلامية هي عدوٌ للتخلف والتأخر والرجعية، كما أنها أساسٌ وعماد للحضارة الإسلامية طيلة عشرة قرونٍ متتالية، وستظل هكذا بأمر الله وحده.

ولم يقفوا عند هذا القدر من التغريب، بل تعدى ذلك إلى إيجاد مدرسةٍ أخرى من المسلمين، تحمل سمومهم وأفكارهم وحقدهم على هذا الدين، وأضفوا عليهم ألقاباً زائفة ليوهموا السائرين في ركابهم أنهم: (المثقفون، والمتقدمون، والتنويرون، والتطويريون، والنخبة)، إلى غير ذلك من أنواع النفخ والتهويل الذي لا يعدوا نفح الكرة بشيء من الهواء المعبأ، فرجعوا إلى بلادهم حاملين لكل تغريبٍ وغريب، ووقفوا أما دعوة الإسلام تأويلاً وتعطيلاً وتجهيلاً، فخرج منهم الكتاب والأدباء والمثقفون، الذي حملوا على الشريعة الإسلامية بالهدم للثوابت والأصول، والاتهام بأنها قاصرةٌ عن مواكبة مسيرة الحضارة العالمية المسرعة في التقدم والمدنية، بل وعملوا على إحياء وتمجيد كل خبيث وماضٍ من التراث الفرعوني والإغريقي والروماني والوثني، وإحياء النعرات القومية والوطنية والحزبية، التي لا تزيد في أمة الإسلام إلا تفرقًا وشتاتًا، واحتراقًا من لفح الجاهلية الغربية المعاصرة منها والبائدة على طول التاريخ.

ومن هنا وقفت المدرستان العقلية والتغريبية موقف العداء الصارخ لدعوة المنهج السلفي خصوصًا دون غيرها من سائر الدعوات والحركات الدعوية المعاصرة إلا ما ظهر منها، وتولد من كل هذا أجيالٌ وأجيال، أصابها الخور والوهن وحب التقليد الأعمى لكل دخيلٍ ومستغرب، ولو كان يتنافي بوضوحٍ مع مسلمات وأصول الشريعة الإسلامية.

كما يضاف إلى صف المعادين للمنهج السلفي الفرق الكلامية عمومًا كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، وكذلك غلاة المتصوفة المنحرفة كالكشفية والفلسفية والقبورية، والفرق الاعتقادية المخلوطة بالسياسة كفرقة الخوارج، والشيعة الرافضة، والباطنية، هذا من حيث التصريح بالعداء للمنهج السلفي في الجملة.

 

*المخالفون للمنهج السلفي:

أما من حيث المخالفة للمنهج السلفي في طرائق العمل الدعوي ووسائله وطبيعته ومنهجه، فيدخل في ذلك الجماعات الدعوية المعاصرة، والتي تحتسب غالبًا في الصف الإسلامي بجميع مناهجها وتصوراتها، واتفاقها جملةً على نصرة الإسلام، والسعي الحثيث لإقامة خلافته الراشدة من جديد، والمعادون للإسلام ودعوته يقفون منها كلها موقف العداء الصراح والخوف من توجهاتها وأهدافها، وهم لا يفرقون حقيقة الأمر بين الموافق منها للمنهج الإسلامي الصحيح والمخالف في كثيرٍ أو قليل، فهي عندهم تمثل المشروع الإسلامي برمته.

والمتأمل لواقع هذه التوجهات الدعوية والتجمعات يظهر له وجوهٌ  كثيرة مختلفة في طبيعة العمل والدعوة للإسلام حيث وجود الاختلافات السائغة وغير السائغة، والخلط بين السنة والبدعة، والحق والباطل، والتي رجعت على جهود كثير من العاملين للإسلام بنوعٍ من التردي أحيانًا، والتناحر والتشاحن أحيانًا أخرى، وأيضًا بالتفسيق والتبديع والتكفير مرات ومرات، لماذا..؟

لأن جُل هذه الدعوات والحركات لم تتخذ من المسلّمة الشرعية ألا وهي: اتباع منهج الصحابة والسلف وتعاملهم مع نصوص الشرع من الكتاب والسنة، لم تتخذها طريقًا واضحًا لبناء عملٍ دعوي صحيح، فوقفوا عند محبتهم للصحابة والسلف رضي الله عنهم، واكتفى هؤلاء بالثناء والترضي عليهم، ولا بأس بالاستدلال ببعض فتاويهم ومواقفهم التي توافق ولا ريب كثيرًا مما ذهبوا إليه، وربما عابوا كثيرًا على إخوانهم المخالفين لهم المتبعين لمنهج السلف قولاً وعملاً واعتقادًا، وقالوا بقصور نظرهم وضيق أفقهم عن إدراك الشمولية والوسطية لحقائق هذا الدين الكبير، ولبعدهم أيضًا عن معترك الفكر والسياسة الواقعية، ومن هنا فلديهم قصور في النظر، وضحالة في الفهم، وضيق في الأفق!

وحقيقة الأمر أنهم أخطأوا الطريق إلى الحق بهذا القول والتصور الذي خالط عقولهم ومنهجهم، لأن الخلط بين المنهج شيءٌ، وبين تطبيق المنهج من حملته شيءٌ آخر، نعم قد يقع الخطأ وتزل القدم، من بعض أناسٍ يحسبون على الدعوة وهم في الحقيقة ثقل عليها، وهذا واقع عندهم وعند غيرهم.

ثانياً: أن الاعتبار الذي ينبني عليه المنهج والعمل إنما يكون بصحة المنهج وسلامته اعتقادًا وتصورًا وسلوكًا، فلا اعتبار في الشرع للأفراد بدون ما يحملونه من مناهج ومعتقدات تحملهم على الحركة والبذل والدعوة والعمل، فإذا صح المنهج وسلم المعتقد، ننظر إلى سلوك العاملين ومدى توافقه مع ما يحملون من مناهج ومعتقدات وتصورات عن طبيعة العمل الدعوي أو غيره.

ثم أمرٌ ثالث: أكدنا عليه مرارًا بأدلته الواضحة البينة لكل أحدٍ: أن محبة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم تقتضي متابعتهم والسير على طريقتهم ومنهجهم في التلقي الفريد، والتعامل الصحيح مع هذا الدين وعقيدته وشريعته، هذا بمقتضي الحب والموالاة لهم، أما بمقتضي الشرع فقد أوجب الله ورسوله ذلك إيجابًا في الجملة بالأمر البين في كتابه وسنة رسوله، بوجوب اتباعهم والأخذ عنهم، وعدم المخالفة لهم في شيءٍ مما أجمعوا عليه مما شرع الله تعالى ورسوله، إلا ما كان من قبيل ما يجد من أحكام ومعاملات تتزل عليها الأحكام الشرعية وفق منهجهم ومذهبهم، لأن الشرع لا يتعارض مع ما يجد من وسائل ومستحدثات في أمور الحياة البشرية كما توهم ما لا بصيرة عنده بالشريعة وأصولها، ولا يقف منها موقف المعارضة والمباينة إلا إن تحقق بها إفساد وإخلال يرجع على مسائل الشريعة وأعراف وأخلاق الأمة ومعتقدها ودينها، ولا حاجة لي هنا أن أعيد ذكر الأدلة في ذلك لأنها أشهر من أن تذكر.

إنما الإشكال الحقيقي في حقيقة الاستجابة لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته وأصحابه فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، لأن المسلم المتبع حقًا، المتسنن باتباع الهدي والسنة، لا يخالف في ذلك، بل يسلم ويذعن، ويرضى ويؤمن كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء:115]، فدلت الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين والحذر من الوقوع في الوعيد لمخالفة هذا السبيل الذي سلكوه.

وقد ذكرت كتب اللغة والتفسير أن السبيل هو: الطريق، وأن أول المؤمنين الذين سلكوا طريق الإيمان والمتابعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، فهم أول من عرف الإيمان والتسليم وكذلك السمع والطاعة وكذلك أيضًا الاتباع للأثر، ولهذا جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم الميزان الحق حين وقوع الفتن والافتراق في أمته كما جاء في الحديث المحفوظ المشهور حديث الافتراق الذي وقعت فيه الأمم، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»، وفي بعض الروايات: «هي الجماعة» (رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم)، وكذلك قوله تعالى: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65].

فالمقصود إذًا: أن المعادين والمخالفين لمنهج ومذهب السلف، وقعوا في كثيرٍ من المخالفات الشرعية الخطيرة والكبيرة مع تفاضل بينهم فيما وقعوا فيه، وكلٌ بحسبه إلا أصحاب المناهج المستغربة والعلمانية والشيوعية الملحدة، فهؤلاء ولا ريب ليسوا على شيءٍ.

والمتأمل في واقعنا المعاصر اليوم يعلم يقينًا أن جل هذه المناهج أو كلها لن تنصر دينًا، ولن تعيد مجدًا مسلوبًا، ولا حقًا مغصوبًا، ولن تفلح أن تقيم للإسلام دولة على كتاب وسنة بينين واضحين، يهتدي بهما الناس، ويعيشوا آمنين مطمئنين على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأقواتهم، ولن تفلح كذلك أن تحارب عدوًا يأخذ خيرات أمتنا، وينهب ما تملكه من مقدراتٍ وثروات وكنوز، أو يحتل أرضًا، ويهتك شرفا، ويذل عزيزًا من المسلمين، إلا ما شاء الله وقدر لحكمة يريدها، كما أنها وفي أفضل أحوالها سيسمح لها بإقامة بعض الشعائر والعبادات، والمشاركة هنا وهنالك في بعض المشاريع السياسية والاقتصادية دون أن تكون هي مالكة زمام الأمر، أو صاحبة القرار المتفرد بالمرجعية التي تريد وتنتمي.

وهذا إن وقع فلا ريب أن حل ذلك أمر ميسور بقرار حكومي أو دستوري كما يقولوا هؤلاء، وهذا ما رأيناه في بلاد الجزائر وتركيا، ومصر وبعض البلاد الإسلامية الأخرى، وما مشروع حركة حماس في أرض القدس وفلسطين المباركة منا ببعيد، حيث العداء له، والتصدي لسياسته ومرجعيته مع ما عندهم من مخالفات، فكيف إذا ساد الأمر كل البلاد وفق الشريعة الإسلامية الصحيحة المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفق منهج وفهم السلف الصالح من صدر هذه الأمة المباركة.

وبعد هذا البيان لا يسعنا إلا أن نقول: إن الموقف السلفي العام من هذه الفرق والتيارات والاتجاهات والمذاهب والفرق والجماعات يقف منها جميعًا:

أولاً: موقف العدل والإنصاف، فلا يُكفَّر المخالف إلا بما أجمع عليه أهل العلم على أنه كفر بواح.

ثانيًا: مراعاة التفرقة  بين النوع والعين في الحكم على القول أو الفعل بالبدعة أو الكفر بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.

ثالثًا: التزام الدعوة بالحكمة، والحجة والبيان، لا بالظلم والبغي والعدوان.

رابعًا: دوام التحذير من البدع والانحرافات والأهواء.

خامسا: التزام التمسك بالوحي من الكتاب والسنة والعمل بمقتضى ذلك.

وإن الواجب الملزم يفرض على كل الدعاة إلى الله تعالى وإلى شريعة الإسلام، أن يلتزموا ما كان عليه السابقون الأولون من الصحابة والتابعين في مسائل الاعتقاد والمنهج والعبادة والسلوك، وفي شتى شؤون الحياة الإسلامية كلها، لأن اتباعهم فيه السعادة والهدى، وفيه العز والسيادة والتمكين، فهم مكنوا في الأرض بهذا المنهج، وحكموا العالم وفتحوا البلاد، ودونوا الدواوين، واستخدموا العمال، وبنوا الحضارة في كل ميادين الحياة والعلوم، في حين أن أوروبا وغيرها كانت تعج في ظلمات الكفر والشرك من جانب، وظلمات التخلف المدني والإنساني من جانب آخر، فمن الظلم إذًا أن يوصم أصحاب هذا المنهج بأنهم لا يحسنون قيادة العالم ولا فقه الواقع، ولا يفقهون من شؤون الحياة والاقتصاد إلا ما يفقه العوام.

إن المنهج السلفي طريقٌ للتمكين الإسلامي المنشود، لأنه منهجٌ رباني فريد، ومنظومةٌ شاملة كاملة في جميع الحياة البشرية عقيدة، وعبادة، وأخلاقًا، ونظمًا: علمية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية، إنه منهجٌ شامل لأنه من عند الله وحده: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، نعم، قد يقع الخطأ والخلل في حملته لأنهم بشر، لكنه يظل المنهج الرباني المعصوم، الذي يجمع بين الأصالة والثوابت، وبين المتغيرات والمستحدثات وفق منهج الله وشريعته.

ولقد أراد الله تعالى في واقعنا أن نرى أثرًا حقيقيًا للتمكين ولو الجزئي في الأمة، في دعوة الشيخ المجاهد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، تلك الدعوة الإصلاحية التجديدية في العصر الحديث وفق منهج السلف، وذلك بقيام دولة المملكة السعودية على الشريعة الإسلامية، بينما نجد كثيرًا من الدعوات الإصلاحية في ذات الوقت في بلاد أخرى لم يكتب لها التوفيق والقيادة.

أولاً: لأن هذا توفيق من الله وحده.

ثانيًا: لإخلاص الشيخ في دعوته نحسبه.

ثالثًا: لقيام دعوته على الكتاب والسنة وفق منهج السلف، مما جعل لها في القلوب طريقًا وموطنًا.

رابعًا: لوجود العامل السياسي من الحاكم في الرغبة بالالتزام بأحكام الكتاب والسنة وأخذ الناس على ذلك[1]، والحمد لله رب العالمين.

_________________________

[1] انظر كتاب السلفية للزنيدي، والمنهج السلفي لمصطفى حلمي، والسلف والسلفية لمحمد عمارة، والبوطي، والاتجاهات العقلانية الحديثة لناصر العقل، والعلمانية للحوالي.

 

نشر في شبكة الألوكة وتمت مراجعته مع الشيخ مع الإضافة والتنقيح

 

 

   

    الصفحة الرئيسية  اا  تواصل معنا

  العودة إلى الخلف          اطبع هذه الصفحة أضف هذا الموقع للمفضلة لديك