منهج الإصلاح بين القرآن والسنة والواقع | |
![]() |
||
الكاتب : الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي |
![]() |
|
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: الصلاح والإصلاح: كلمة كبيرة يحوم حولها عدد من أصحاب المناهج والأفكار والتصورات المعاصرة، والأكثر يلهث في محاولة توظيفها لأهدافه ومصالحه، واكتساب الجماهير إليه، محاولاً بذلك كسب الطريق إلى منهجه وأفكاره دون غيره، ومن هنا يجب على الداعية المعاصر أن يعلم حقيقة هذا المصطلح، وأن يدرك أن الدعوة الإسلامية هي الطريق الأول الصحيح إلى ميدان الإصلاح، والخطوة الأولى، كما أنها طريق الأنبياء والمرسلين والمصلحين، ثم بعدها تأتي صور الإصلاح الأخرى، وتقوم عليها، ويتجلى هذا في النقاط التالية:
أولاً: الإصلاح في اللغة والقرآن والسنة: الصلاح والإصلاح: ضد الفساد ونقيضه، وهي مصطلحات شرعية ربانية أوردها الله تعالى في كتابه المحكم العزيز، وجاءت في القرآن على نحو كبير يزيد على السبعين بعد المائة من آيات القرآن، وتارة توصف بها بالأشخاص، وتارة توصف بها الأعمال كما قال تعالى: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة: 120)، وقال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (هود:46)، وقال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (مريم:60)، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} (القصص:67)، إلى غير ذلك من آيات القرآن. كما وصف الله تعالى الداعين الناس إلى منهج الله وشرائعه، القائمين به ديناً وعملاً بالمصلحين، أي الساعين إلى الإصلاح فيما وقعت فيه البشرية من الانحراف والبعد عن صراط الله المستقيم وشرائعه كما قال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88). وكذلك الحال لما استخلف نبيُّ الله موسى أخاه هارونَ عليه السلام في قومه أوصاه بقوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيل َالْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142)، وكذلك أخبر الله عن حال قومه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الأعراف:170)، وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116- 117) . والمتأمل لهذه المادة: صلح يصلح وما خرج منها - كأصلح، يصلح، صالحين، مصلحين، يصلحون، صالحات وغيرها – كما جاءت في كتب المعاجم واللغة كاللسان والصحاح وغيرهما، يجد أنها تعود في جملتها إلى: استقامة الشيء وصلاحه، واستقامة الإنسان والنفس على المكارم والأخلاق الفاضلة، وإلى النهي عن ضده من الانحراف والفساد في الأرض، ونفي الشحناء والبغضاء من القلوب، كما قال تعالى مبيناً ذلك في آياته المنزلة: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 39)، وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:146)، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 119). وكذلك في النهي عن الفساد في الأرض قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة:11)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117). وكذلك السعي في الإصلاح بين المتخاصمين أو المتنازعين في الأمر كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْحَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)، وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ..} (النساء: 128). وقال تعالى أيضاً: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1)، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..} (الحجرات: 9)، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10)، وقال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 114). * أما السنة النبوية ففيها من هذا الباب في الإصلاح والاستقامة والدعوة إلى الخير وإقامة الحق الشيء الكثير أيضاً، فمن ذلك: ما جاء في صحيح الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». وعن أنس- رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «إذا أراد اللّه بعبد خيرًا استعمله» فقيل: كيف يستعمله يا رسول اللّه؟ قال: «يوفّقه لعمل صالح قبل الموت». أخرجه الترمذي والبغوي في شرح السنة. وعن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّا من ثلاثةٍ: إلّا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» رواه مسلم. وعن النّعمان بن بشير- رضي اللّه عنهما - قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الحلال بيّن، وإنّ الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس؛ فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام كالرّاعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عبّاس - رضي اللّه عنهما - أنّ نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الهدي الصّالح والسّمت الصّالح والاقتصاد جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا من النّبوّة». رواه أبو داوود وأحمد بسند حسن وصححه الألباني. وعن عبد اللّه بن عمرو- رضي اللّه عنهما- أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «الدّنيا متاع وخير متاع الدّنيا المرأة الصّالحة»، رواه مسلم. وعن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - عن النّبيّصلى الله عليه وسلم قال: «قال اللّه - عزّ وجلّ -: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب اللّه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17)»، رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عبّاس - رضي اللّه عنهما - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «ما من أيّام العمل الصّالح فيهنّ أحبّ إلى اللّه من هذه الأيّام العشر»، فقالوا: يا رسول اللّه ولا الجهاد في سبيل اللّه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «ولا الجهاد في سبيل اللّه، إلّا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء». رواه البخاري والترمذي. وعن مرداس الأسلميّ - رضي اللّه عنه - قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل، ويبقى حفالة كحفالة الشعير - أو التّمر - لا يباليهم اللّه بالة». رواه البخاري. وجاء في صفة أهل الغربة في هذه الأمة في آخر الزمان عدة نصوص وأحاديث منها هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بدأ، الإسلام غريبا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء»، وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وفيه: «ومن الغرباء؟ قال: نزاّع من القبائل» وفي رواية: «الغرباء الذين يَصلحون إذا فسد الناس»، وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «طوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي»، وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا ذات يوم ونحن عنده: «ماذا للغرباء؟ فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»، رواه احمد والطبراني بسند صحيح. فمن كل هذه النصوص الواردة في القرآن والسنة، والتي مدارها على إقامة الصلاح والإصلاح في الأرض، يستبين لنا أن هذا الباب يجب أن يكون محل البحث والنظر والاهتمام؛ لأنه من الأبواب الكبيرة والجليلة التي احتوتها النصوص والأدلة الكثيرة كما سبق آنفًا. والمتأمل في هذا أيضاً يدرك من خلال تنوع النصوص واستخدام مادة الصلح والإصلاح فيها، أن الإصلاح ميدان كبير وواسع، يتعلق بكثير من شؤون الإنسان من حيث استقامته مع الله تعالى ومع الخلق، ومن حيث استقامة عمله وعبادته، وكذلك استقامة وصحة اتجاهه ومنهجه، وعقيدته وأخلاقه، وإلا تحول كل ذلك إلى نوع من الانحراف عن الهدى والصراط المستقيم، ونوع من أنواع الفساد في الأرض والمنهج والمعتقد. وواقع المسلمين اليوم ينبئ عن وجود حاجة وضرورة ماسة وملحة إلى هذا الإصلاح، حيث تتجاذب الاتجاهات والتيارات الكثيرة، والفرق والأحزاب وغيرها إلى ميدان الإصلاح وما يتعلق به من قواعد ومناهج ووسائل، ولا ريب أن هذه الاتجاهات كلها لديها من المسوغات والاستدلالات ما تؤكد به حتمية وجود الإصلاح في شتى ميادين الدين والدنيا، سواء كان ما تملكه من هذه القواعد والمناهج فيه حقٌ بيّنٌ واضح، أو فيه ألوانٌ وصورٌ من التخبط والانحراف الجارف. وإن أولى المناهج والدعوات والاتجاهات المعاصرة اليوم بهذا الإصلاح المرتقب، أهل الدعوة والسنة والحق، المستمسكون به، الداعون إليه، الراجون ثوابه وثمرته، وأعني بهم الدعاة إلى منهج الله تعالى، وإلى الاعتصام بهدي الكتاب والسنة بما كان عليه سلف الأمة من قبل، كما دلت على ذلك النصوص والأدلة.
ثانياً: مدارسٌ إصلاحية متناقضة: ومما يجب علم الداعية به أيضًا في هذا الميدان أن المنادين اليوم بالإصلاح وضرورته، يعلمون جيداً أن ميادين الإصلاح كثيرة وواسعة، تبدأ من إصلاح الفرد وتنتهي بإصلاح المجتمع والأمة، ويشمل الإصلاح ما يتعلق بالفرد والمجتمع والاقتصاد والسياسة وغيرها، ومن العسير جدًا أن يقوم به اليوم فردٌ من أفراد الأمة الإسلامية بمفرده، بل إن الحاجة إلى التعاون والاجتماع فيه أمرٌ واجب وملح، استوجبته ضرورات الواقع الإسلامي اليوم. ولكن في ذات الوقت تتجاذب هذا المصطلح القرآني والنبوي أيد خفية ماكرة، وتلهوا بالأمة من خلاله، ويقعون في صور من الانحراف والتخبط عما زعموه من الإصلاح، بل ويتفقون ويتعاونون فيما بينهم على ذلك؛ من أمثال العلمانيين، واللبراليين، والشيوعيين، والحداثيين وأذنابهم كما جاء به القرآن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:11،12]. وهذه الفئات تزعم أنها تريد إصلاح المجتمعات، وبناء الأمة، وتخليصها مما شابها من التخلف الحضاري والتقني وغير ذلك، وترى أن التحرر -المزعوم- من الدين والانفلات من قيوده، هو الباب الأوحد لهذا الإصلاح الحضاري المرتقب، ولا ريب أن هؤلاء واهمون متهافتون واهمون. لأن تاريخ الأمم الغابر من أمثال الحضارات البائدة؛ كقوم عادٍ وثمود وفراعنة مصر وغيرهم، لما خلفوا دعوة التوحيد والعبودية، ودعوة الإصلاح المنزلة من السماء، على أيد الأنبياء والرسل عليهم السلام، ما أغنت عنهم ما زعموه من حضارة أو تقدم، والقرآن دليل واضح البرهان في هذا، كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} [فصلت:16]. فهذا حديث القرآن في شأن قوم عاد، وما آل بهم من كبرٍ وبطش واستعلاء بغير الحق، حتى حق عليهم وعيد الله تعالى وعقابه، وكذلك قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَاد ِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:11-14]. ولكن على الجانب الآخر يظهر لنا مدارسٌ أخرى تنادي بالإصلاح والتغيير والبناء والعطاء، لما ألم بالأمة الإسلامية من ضعف وركون، ولما أصابها من تخلفٍ وانحراف عن المنهج الصحيح الواضح، ولكن أكثر هؤلاء يريدون ذلك الإصلاح المنشود وفق ما تأثروا به وأعجبوا من واقع الغرب الحديث، أو ما تأثروا به من فرق الكلام القديمة كالمعتزلة والأشاعرة وغيرهما، وكان من أول رواد هذا المدرسة الحديثة السيد أحمد خان الهندي المتوفى في 1897م، ثم تبعه جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني، وتبعه كذلك شيخ الأزهر الأسبق الإمام محمد عبده، ثم من صار على هذا الدرب، من أمثال محمد مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، ومحمد فريد وجدي، وغيرهم كثير. ولكن ثمةَ حاجة ملحة إلى عملٍ إصلاحي كبير، ينهض بالأمة من رقادها، ويشد من عزمها نحو الإسلام من جديد، فكانت دعوة الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى في هذا الميدان من أبرز ما ظهر، حيث أنشأ جماعة الإخوان المسلمين، والتي قامت في مصر بجهود متعددة ومنوعة في هذا الاتجاه نحو الإصلاح حسب مقررات الشيخ في كتبه ورسائله وأدبيات الجماعة، لكن دعوة الشيخ البنا كانت متأثرةً بدعوة محمد عبده والأفغاني، إلى كونها متأثرةً من جانبٍ آخر ببعض الفرق التي شابها نوعٌ من الغلو والانحراف كمدرسة التصوف والصوفية، مع رفض الشيخ لما هم عليه من غلوٍ وانحراف بحسب كلامه في بعض رسائله، ثم تأثر الجماعة أيضًا بواقع الأحزاب السياسية مما أدخلها في طريق ابتعد بها كثيرًا عن ميادين التغيير والإصلاح الحقيقي المنشود. ومن ثم تعددت جماعات أخرى كلٌ وفق ما تصور وأراد، مع تنوعها في سائر البلاد، من أمثال مشروع مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف، كما ظهرت بعض التيارات والاتجاهات التي تنادي بضرورة العودة إلى الكتاب والسنة وفق منهج السلف، والتي عرفت بعد ذلك بالاتجاهات أو التيارات السلفية، كجماعة أنصار السنة المحمدية التي أسسها الشيخ محمد حامد الفقي، وغيرها. لكن يبقى هنا أن الله تعالى لا يُسلم الناس إلى الشر المحض، ولا إلى أهل الأهواء والانحرافات؛ لأن الحق وأهله قائمون به في هذه الأمة كما جاء في الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بالحق ظاهرين.... الحديث"...
ثالثاً: من أين يبدأ طريق الإصلاح؟: ومع تعدد ميادين الإصلاح وتنوعها ما بين دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية، إلا أنه لا يقوم بكل ذلك في آنٍ واحد أو يجمعها جمعًا رفيقًا صحيحًا إلا دعوة الحق والإسلام: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]؛ لأن جل هذه الميادين والقائمين عليها، سرعان ما تهوي وتنحدر بأصحابها وأتباعها نحو الفناء أو الانزواء والنسيان؛ لأنها قائمةٌ على غير منهجٍ صحيح من الله تعالى، وعلى غير بصيرةٍ بشريعته ودينه، ولعل واقع الأمة اليوم خير شاهد على هذه الحقيقة الواضحة. فالذين ينادون بالإصلاح أكثرهم لا يجعلونه عاماً وشاملاً، وإنما يقفون منه موقفاً تجزيئياً، حيث أنهم لا يلتفتون إلى كل ميادين ومجالات الإصلاح الصحيح، فترى منهم من جعل قاعدة انطلاقه المجالات الاجتماعية والاقتصادية، والتكافل فيها من رعاية الفقراء والأيتام، والأرامل والمساكين، وإقامة الجمعيات الخيرية والتعاونية، ومحاربة البطالة والفقر، وصناديق الاستثمار وغيرها، وهذا واجبٌ وضروري ولا ريب،.. لكنه لا يعدوا أن يكون طريقًا واحدًا في هذا الميدان الكبير. ونرى من جعل قاعدة انطلاقه من المجالات السياسية، فينطلق يؤسس أحزاباً ووطنيات وقوميات، ويخوض الصراع الكبير مع أصحاب السياسات والأهواء في غالب أحوالهم، ويمتد الصراع إلى أمدٍ طال أو قصر، حتى يؤول الأمر إلى انزواءٍ وقلة وانحسار، أو إلى تفرقٍ وتشرذم، وعصبيةٍ جاهلية بغيضة، لا تغير واقعًا، ولا تبني مصيرًا، ولا تُصلح خرابًا، ولا تهدي من ضل عن سواء السبيل؛ لأن هؤلاء أرادوا إصلاحًا لكنه من القمة لا من القاعدة العريضة الراسخة. ولقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والسلطان، والمال، والسيادة أول أمره ودعوته، لكنه أعرض عن كل هذا، واتجه نحو البناء والتغيير للنفس البشرية مباشرة دون تدخل واسطةٍ ليس لها في النفس شأنٌ ولا بنيان، ودعا وصبر وصمد حتى أذن له بالهجرة المباركة إلى المدينة المنورة، فكانت هناك السيادة والملك والسلطان، ولكن بأهل العقيدة الراسخة، والأنفس الزاكية الطاهرة، التي أرادت الحق وبذلت له أرواحها وأموالها، وكل ما لديها من مقومات الحياة. ولا سبيل إلى حقيقة الإصلاح المنشود والنهوض اليوم في كل مجالات الحياة الإسلامية وصورها، إلا أن تقوم جماعةٌ -أعني فريقًا من الأمة بالمعنى الشرعي- تحمل على عاتقها أمانة العودة والتغيير والإصلاح على منهاج النبوة الأول، ولا يتأتى ذلك إلا بإقامة الأصل الأصيل، والطريق القويم -الدعوة إلى الله تعالى على منهج السلف الصالح- مع كمال الاستقامة عليه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. والواقف بعين البصيرة مع السيرة النبوية المباركة يتجلى له بوضوح هذه الحقيقة الكبيرة، حقيقة إقامة الحياة الإسلامية بمنهج الدعوة إلى الله تعالى، فبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في جزيرة العرب التي حلت بها كثير من البلايا والرزايا في الاعتقادات والمعاملات، والأخلاق والسلوكيات، مع وجود بقايا لا تنكر من المروءة والأخلاق، لكن غلب على حياتهم صورٌ وألوان من التردي في العقل والمعتقد والقيم مما جعلهم يعبدون حجرًا لا يسمع ولا يبصر من دون الله تعالى، بل وتعددت الآلهة بتعدد أصحابها حتى سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. وكذلك أكلهم الربا، والظلم الاجتماعي، وانتشار الفواحش والمنكرات المعلنة بلا خجلٍ أو وجل من قلبٍ أو دين، فاستلزم ذلك بعثة ربانية تعيد البشرية إلى مسارها، وتقوّم ما اعوج من دينها، وما فسد من أخلاقها ومعاملاتها، وما انحرفت فيه بأفهامها عن منهج الأنبياء والرسل، فكانت دعوة التغيير والإصلاح، ودعوة البناء والهداية، ودعوة الخير والرشاد دعوة الإسلام الشاملة: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105]. فقام النبي صلى الله عليه وسلم معلنًا عبودية الله تعالى وحده من دون الآلهة الباطلة، وصبر وثبت وأوذي كثيراً، وظل في دعوته ومنهجه، يدعوا الناس، ويعلم الناس، ويذكّر الناس، حتى قامت دعوته خير قيام على ثرى المدينة المنورة، وما شرع الجهاد في سبيل الله تعالى، إلا بعد هذا الميدان الكبير من الدعوة الخالصة، والصبر على عنت أهل الكفر وضلالهم. والمشككون في هذا الطريق اليوم ليسوا على شيءٍ، لأن التاريخ خيرُ شاهد، والقرآن والسنة خيرُ دليل، والواقع الأليم اليوم يُثبت كل ذلك.. وكم جربت الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة من المناهج والدعوات والتيارات على اختلاف مشاربها وأفكارها ولم تحصد من ذلك إلى الآن شيئًا يذكر، أو أثرًا ينظر، نعم لا بد للمصلحين من سلوك ميادين الإصلاح كلها: الاجتماعي، والاقتصادي، والعلمي، والسياسي، والديني، بل والعسكري، لكن من أين يكون المنطلق الحقيقي؟ ومن أين تبدأ الأمة مسيرة الإصلاح أولاً؟ هذا هو محور بيت القصيد. ونحن نقول لا سبيل اليوم إلا سلوك طريق المصلحين السابقين من الأنبياء والمرسلين، وفي مقدمتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، والسير فيه، حتى يأذن الله تعالى بأمرٍ من عنده، فنحن لا نوجب على الله تعالى فيه أمرًا، بل الأمر كله لله، والتمكين لأهل الإيمان والتوحيد الخالص من الشرك وعدٌ عظيم منه تعالى لعباده المؤمنين العاملين، في الوقت الذي يشاء سبحانه. لأن مرحلة التأسيس تتطلب التركيز على بناء شخصية العقيدة الراسخة، والإيمان الواضح، والانقياد التام بالخضوع لأمر الله ورسوله، ومواصلة منهج التربية على ذلك، فإذا تم هذا تكّون في الأمة المجتمع المسلم المتقبل لأمر الله ورسوله بصدرٍ رحب، وانقيادٍ تام، ثم إذا مكن الله لأهل الإيمان والتوحيد، وقامت دولة الإسلام الحق، تقوم الدولة بالواجب الشرعي المنوط بها على الوجه المطلوب شرعًا وواقعًا. وليس معنى هذا الامتناع عن سلوك بعض ميادين الخير والإصلاح الاجتماعي والسياسي تمامًا، كلا.. بل المقصود الحفاظ على تلك المرحلة العظيمة من مراحل التأسيس، بألا تنغمس الدعوة بجملتها في تلك الميادين المتعددة انغماسًا كاملاً يعود على أهلها بالنقض والضعف والرجوع والتقهقر عن الطريق والمنهج، أما إذا كان الأمر ثانويًا من بعض الجهات والأفراد ولا يترتب عليه ثمة ضرر على مرحلة التأسيس الصحيح فلا بأس به، وفي العهد المكي شارك النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول، ولم يترك دعوته ومنهجه وعقيدته في تربية أصحابه الكرام، واشترى أبو بكر الصديق بعض العبيد وحررهم، ولم تتأثر عقيدته ومنهجه، كما لم يجتمع المسلمون على جمع الأموال لتحريرهم، لأن هذا سابق لأوانه، فهذا المقصود. ولهذا فإن من الأسس الضرورية في هذا الطريق إيجاد الطائفة المؤمنة، وتربيتها على العقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة، والأخلاق الصافية من شوائب الشرك والبدع والانحرافات والفرقة والأهواء. فإذا وجدت في الأمة تلك الطائفة التي تؤمن بهذا الإصلاح وضرورته وفق منهاج النبوة الأولى، ووجدت معها القاعدة العريضة الراسخة من الجماهير المؤمنة الصالحة التي تؤمن به، وتسعى إليه، وتضحي من أجله، عندئذٍ تنتقل الأمة في درجات الإصلاح، وتترقى شيًا فشيئًا: شرعيًا وعلميًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا حتى تملك زمام أمرها، وتنهض من كبوتها، وتؤسس لدعوة إصلاحية حقيقية كبيرة، تقود الأمة نحو منهج الإسلام الحق، وطريق العزة والمجد والبناء والحضارة المنشودة، وقد يمن الله يومًا على الأمة بقائدٍ رباني عبقريٍ فذٍ تنصاع له الأمة بأسرها، وتستجيب لدعوته، فتنهض أسرع مما يتصوره باحثٌ أو عاقلٌ أو مفكر! ولكن هذا بيد الله وحده، وليس علينا أن نحيا في الأماني ونغرق في الأحلام، بل الواجب الشرعي يحتم على الأمة العمل والسعي والبذل والإصلاح، كل على قدر مكانه ومكانته ومسئوليته التي تحملها أمام الله تعالى. وقد يقول قائل: إن الانخراط في الدعوة والتعليم والتربية والتوجيه للوصول إلى الإصلاح المنشود، والتمكين الموعود أمرٌ طويلٌ وشاق، وقد يتأخر لسنواتٍ! فلم لا نسلك الميادين الأخرى؟ ونحن نقول: نعم إن الدعوة والإصلاح طريقٌ مجهدٌ وشاق ولا شك، لكنه الطريق الوحيد الذي تكفل الله تعالى بالنصر والتمكين لأصحابه، كما أن الأمة جربت كما ذكرت آنفًا العديد من المناهج والتصورات والأحزاب، فلم يتغير شيءٌ إلا القليل، ولم تصل الأمة بعد إلى مرامها وغايتها منذ عقودٍ طويلة! ولا زالت تسير إلى طرق مجهولة العواقب في شتى مناحي الحياة، فلم الاستعجال ونحن على يقينٍ أن الطريق الذي سلكناه هو طريق الحق والتمكين ولا ريب، وقد تعجل البعض النصر يومًا فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم واضحًا جليًا، حيث روى البخاري في صحيحه، عن أبي عبد الله خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». وفي القرآن ذكر تعالى أن الصبر واليقين من أعظم الطرق إلى التمكين والإمامة في الدين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وحسْبنا من كتاب الله بيان صفات الجماعة المؤمنة، الثابتة بمنهجها على طول الطريق، وهي في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، وقال تعالى أيضًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف: 35]. وقد ذكرنا أن انشغال بعض الجهات والأفراد ببعض ميادين الإصلاح فيما لا يضر الدعوة أو يؤخرها، أو يصرفها عن غايتها الكبرى، أمرٌ لا بأس به، ولا مانع منه، أما إذا لم تستقر العقيدة الصحيحة في القلوب، فقد يستدرج بعض أعداء الأمة بعض العاملين إلى ألوانٍ وصور ظاهرها الخير والإصلاح للمجتمع والأمة، وفي حقيقتها استنزاف للدعوة وأتباعها، وتعطيل لأهدافها الأساسية وغايتها، أو أن يتوهم بعض العاملين للدعوة أنه أدى رسالته، وحقق غايته، فلا والله، إذ لو كانت كذلك لما صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الجوع والأذى لسنواتٍ في شعب أبي طالب، ومعه صفوة الخلق من أصحابه وأتباعه رضي الله عنهم جميعًا، حتى أنهم أكلوا أوراق الشجر، وربطوا على بطونهم الحجر، لأن إشباع البطون ليس الغاية الكبرى من إقامة المنهج الحق، ولكنه ضرورة وحاجة تأتي بقيام أسبابها، لأن الذي بايع على الإسلام ونصرة الحق لا ينتظر إلا رضى الله تعالى والجنة، ولهذا لم يلتفت الصحابة أبدًا مع شدة فقر أكثرهم أول الأمر إلى الدنيا وعرضها وزينتها، وإلا لما دخلوا في الإسلام ابتداءًا. وأيضًا قد يُستدرج بعض العاملين للدعوة في بعض ألوان العمل السياسي! من باب المكر والخديعة، لا من باب الظهور والتمكين، فقد يُفتح الباب للتيارات والأحزاب الإسلامية هنا أو هنالك للمشاركة السياسية من باب الاستئناس، وباب تحجيمها وإضعافها وإسقاطها بلا تعب أو مشقة تذكر، والواقع خير دليلٍ في هذا. ولسوف يأتي على الأمة زمانٌ تنطلق فيه في كل ميدانٍ من ميادين الإصلاح العلمي والاجتماعي والسياسي، وفي كل سبيلٍ لكن هذا له وقته، وله أوانه، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. ولهذا فإن على العاملين في سبيل الدعوة والإصلاح وإقامة الحق أن يلزموا مقومات النصر والتمكين المناسبة للمرحلة، والتي تقوم على التربية والتعليم، والنصيحة، والصبر، واليقين، والإعداد بحسب المستطاع والمتاح والمباح، وترك الاستعجال والاندفاع دون النظر إلى العواقب والنتائج، كما قال تعالى: قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وبهذا ندرك تمام الإدراك أن الإصلاح يبدأ من العقيدة والإيمان أولاً، ثم يمتد ويتوسع ويتدرج إلى البيت والمجتمع ثم ليشمل الأمة كلها في جميع مجالات الحياة.
نشر في شبكة الألوكة وبعضه في مجلة الفرقان الكويتية وتمت مراجعته مع الشيخ مع الإضافة والتنقيح
|
||
![]() |
العودة إلى الخلف | اطبع هذه الصفحة | أضف هذا الموقع للمفضلة لديك |