فضائيات القرآن بين التوجيه والتكريم | |
![]() |
||||
الكاتب : الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي |
![]() |
|||
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد: فإنَّ من نِعم الله الكبيرة على الأمة الإسلامية في هذا العصر، أنْ سخَّر لها من التِّقنيات والوسائل والمخترَعات الحديثة ما يُمكنها من خلاله إسماع القرآن الكريم وسورِه وآياته كاملةً لجميع أرجاء المعمورة شرقًا وغربًا، وهذا مُشاهَد ومعروف الآن من خلال ما يسمَّى بـ"القنوات الفضائيَّة" و"الإذاعات الصوتيَّة"، وأمثلتُها كثيرة ومعلومة؛ كـ "قناة المجد للقرآن" و"آيات" و"الرسالة" و"المصحف" و"أهل القرآن"، وإذاعة "القرآن السعودية" وإذاعة "القرآن الكويتية" وإذاعة "القرآن المصرية"، إضافةً إلى بعض القنوات والإذاعات التي تُبَث من خلال شبكة المعلومات "الإنترنت" وعددٍ من المواقع والمدوَّنات. وقد بدا لنا بفضل الله تعالى تلك الآثارُ الطيبة التي أسهمَت في اقتراب كثيرٍ من الناس من كتاب الله تعالى تلاوةً واستماعًا، وحِفظًا وفهمًا؛ ومن أمثلة ذلك ما حدَّثَني به أحد الأفاضل الحفَّاظ الذين كانوا يُتابعون الحفظ والقراءة على الفقير إلى الله - كاتب هذه الكلمات - من عدَّة سنوات، وقد سألتُه: كيف كنتَ تحفظ وتراجع القرآن قبل؟ فقال: أنا أعمل "حلاقًا"، وأثناء وجود الزبائن عندي فإني أستفيد من بعضِهم في وجوده! فقلتُ: وكيف ذلك؟ فقال: إن قناة المجد للقرآن عندي تعمل طوال اليوم إلى منتصفِ الليل، فأحفظ السورة التي أريد من خلال استماعي أثناءَ عملي، ثم أتابعها في بقية ختمات المصاحف، حتى إذا دخل عندي أحدُ الشيوخ الذين أعرفهم؛ فإني أقوم بالتسميع عليه أثناء الحلاقة؛ لتثبيت حفظي وضبط قراءتي، فأعمل وأستفيد! وهذا من جميل ما رأيت في حياتي. • • • ومع وجود تلك الآثار الطيبة الكثيرة لهذه القنوات والإذاعات، فإنَّ هناك بعضَ الملاحظات المهمَّة عليها، وهي في حقيقتها لا تَنال ولا تُضعِف من مكانتها وتأثيرها إطلاقًا، بل هي خطوةٌ على طريق الارتقاء والبِناء والتَّعاون على البرِّ والتقوى. ومن تلك الملاحَظات التي وقفتُ عليها عدة مرات: أمرٌ كاد يكون ظاهرةً في بعض القنوات والإذاعات القرآنيَّة؛ حيث نجد الاهتمامَ الكبير بذوي الأصوات الحسَنة، والقراءة الجميلة المؤثِّرة من القرَّاء والمشاهير، دونَ مراعاة واعتبار مسألة الإتقان والتجويد الصَّحيح! ولهذا نجد عدَّة تلاوات لسورٍ من القرآن، بل ومصاحفَ كاملة لبعض هؤلاء القراء والمشاهير، تُعرض على تلك القنوات والإذاعات، ويَسمعها ألوف من الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وهي في حقيقتها تحتاج إلى ضبطٍ وإتقان، بل وربما إعادة تسجيل! وقد سمعت في العام الماضي في شهر رمضان بعضَ القراء المشاهير في صلاة التراويح والقيام - في بثٍّ مباشر من دولة الإمارات - يقرأ القرآن ويلحَن في كلمات لا يَلحن فيها ناشئٌ مبتدئ مع شيخه! ومنهم مَن يجمع اللحن بنوعَيه في قراءته، فيُدخل حكم القلقلة على بعض الأحرفِ الساكنة التي لا تَدخل فيها، أو يَزيد في المقدار الزمَني للغنَّة والمدود، وهذا يتكرر كثيرًا جدًّا، أو يُدخل التفخيم على بعض حروف الترقيق، أو العكس، أو لا يُشبع بعضَ الحركات والأحرُف في الوقف والوصل! أو لا يُحسن معرفةَ الوقف والابتداء أثناء القراءة والآية، وهذا ربَّما غيَّر المعنى المراد من كلام الله تعالى في بعض المَواضع، أو يقرأ القرآن على طريقة أهل المقامات الصوتيَّة والتنغيم، ولستُ هنا في حاجةٍ لضرب الأمثلة؛ لظهورها. ومع هذه الأخطاء المتكرِّرة في مواضعَ كثيرة من التلاوة؛ يقدَّم للناس كإمام وقارئ من "القرَّاء المشاهير"! وأكبر منه أن تكون تلك القراءةُ على الهواء مباشرة، ويسمعها ألوفٌ وألوف من الناس، وهذا عجيب حقًّا؛ لأنَّ الاعتبار الشرعي الذي يقدَّم مِن أجله الإمامُ ليكون إمامًا، إنما يكون بكثرة الحفظ، وجَودة القراءة وإتقانها، ومِصداق هذا حديثُ أبي مسعودٍ البدري: ((يَؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم بالسُّنة، فإن كانوا في السنَّة سواءً فأقدمُهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا، ولا يَؤمَّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يَقعُدْ في بيته على تَكرمتِه إلا بإذنه)). فالذي يؤمُّ الناسَ الأكثرُ حفظًا، والأجودُ قراءة، والأفقهُ بأحكام صلاته وعبادته، فإذا جمَع الإمام مع الحفظِ وإتقان التلاوة حُسنَ الصوت والتأثير، فلا شكَّ أنه أبلغُ وأعظم وأجلُّ؛ ولهذا رغَّب النبي في تحسين الصوت أثناء القراءة، وأثنى على أهله، كما جاء في الحديث: ((زيِّنوا القرآن بأصواتكم))، وحديث: ((ليس منا مَن لم يتغنَّ بالقرآن، يجهر به))، ويدخل في معنى التغنِّي بالقرآن تحسينُ الصوت والجهر به، مع ضبط القراءة والأداء، كما قال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]؛ لأنه أوقعُ في القلوب والنفوس تأثيرًا وهدايةً وموعظة، وقد قيل في معنى الترتيل: هو تجويدُ الحروف، ومعرفةُ الوقوف، وقد نُسِب هذا القول لسيدنا عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه ولم أقف على تخريجه، كما نصَّ على وجوب تجويد القراءة وضبطِها الإمامُ الحجَّة ابنُ الجزريِّ رحمه الله تعالى بقوله:
أما أن تتحوَّل الهِمَم إلى الاهتمام بذَوي الأصوات الحسَنة والمقامات والشُّهرة فحَسب، دون مراعاة مسألة الإتقان في القراءة وضبطِها، فهذا خطأٌ كبير في حقِّ القرآن الكريم أولاً، ثم في حق الإمامة وأمانتها ومكانتها. إننا لا شكَّ نحبُّ قرَّاء القرآن وأهلَه ونجلُّهم، ولا يمكن لأحد أن يمنَع الناس من محبة أهل القرآن وأهله، الذين رفَع الله مكانهم ومكانتهم، وأعظم مقامَهم، لكن الواجب على بعض تلك القنوات والفضائيات أن تَصون القرآن وتَرعاه كما يَنبغي، فلا تَعرض تلاوةً أو غيرها لأحد من القراء، إلا بعد مراجعتها وضبطها على لجنةٍ مختصة من القراء والمحكمين المتقِنين من أهل الفن والقراءة والأداء. • • • كذلك ينبغي على القراء الذين منَّ الله عليهم بحسن الصوت والشهرة والمحبَّة بين الناس، أن يتَّقوا الله تعالى فيما أولاهم وأعطاهم؛ وذلك بإخلاصهم في قراءتهم وعبادتِهم لربهم، ثم بإتقانِ تلاوة القرآن وإحكامه على شيخٍ متقنٍ لضبط التجويد والأداء، ولا يغتَرُّوا بمحبة الناس والثناء عليهم لمجرَّد حُسن الصوت وجماله؛ لأنَّ إحكام القرآن وتلاوتَه أهمُّ وأعظم. يقول الشيخ العلامة عبدالفتاح المرصَفي رحمه الله في "هداية القاري": "والأمَّة كما هم متعبَّدون بإقامة حدود القرآن، متعبَّدون كذلك بإقامة حروفه وتصحيحِ ألفاظه، وإقامةُ الحروف وتصحيحُها لا يقومان إلا بتطبيق أحكام التجويد كاملةً؛ من إظهار المظهَر، وإدغام المدغَم... إلخ. انظر إلى قول الحافظ ابن الجزَريِّ في "النشر": "ولا شكَّ أن هذه الأمة كما هم متعبَّدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبَّدون بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلَقَّاة من أئمة القراءة المتصِلة بالحضرة النبويَّة[1]" الأفصحيَّة العربية التي لا تجوز مخالفتُها، ولا العدول عنها إلى غيرها". اهـ منه بلفظه. قلتُ: ويُؤخذ من عبارة الحافظ ابن الجزريِّ هذه أنه لا بدَّ من الأخذ بجميع أحكام التجويد كاملةً حال أداء القرآن، ولا يجوز العدولُ عنها إلى غيرها؛ لأنه وصف إقامة الحروف وتصحيحها بالصفة المتلَقَّاة من أئمة القراءة المتَّصِلة، ولم نسمَع بل ولم يوجَد نصٌّ يدلُّ دلالةً واضحة أو غيرَ واضحة على أنَّ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بِتَرك الإظهار أو الإدغام... إلخ ما تقدَّم، بل دلَّتِ النصوص والأدلة على أنها كانت قراءة محكَمة مجوَّدة كما علَّمها إياه جبريلُ عليه السلام على هذه الكيفيَّة المعروفة، ثم تلقَّاها عنه صلى الله عليه وسلم الصحابةُ رضوان الله عليهم، ثم مِن بعدهم التابعون، ثم أتباعهم، ثم أئمة القراءة، ثم مِن بعدهم أممٌ وخلائقُ لا يُحصَوْن عددًا في جميع الأعصار والأمصار، إلى أن وصَل إلينا بهذه الصفة بطريق التواتُر الذي يُستفاد منه القطع واليقين. وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لأحد كائنًا مَن كان أن يَحيد عن هذه الصفة قِيدَ أَنمُلة؛ فمَن تركها وتحوَّل إلى غيرها، أو رغب عنها فهو معتدٍ أثيم، مستحقٌّ للعقاب؛ لتركه واجبًا شرعيًّا...""[2]. اهـ. _________________________ [1] أي: المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. [2] بتصرف من كتاب هداية القاري للشيخ عبدالفتاح المرصفي.
نشر في شبكة الألوكة |
||||
![]() |
العودة إلى الخلف | اطبع هذه الصفحة | أضف هذا الموقع للمفضلة لديك |