الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

تعريف الإجازة الحديثية وأركانها وأنواعها

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد:

فهذه وقفات مع الإجازة وتعريفها، وفيها عدة مسائل مهمة نشير إليها فيما يلي:

المسألة الأولى: تعريف الإجازة وأركانها:

الإجازة هي: الإذن بالرواية للمجاز بها سواء أذن له لفظاً، أو كتابة، قال عيسى بن مِسْكين: الإجَازة رأس مالٌ كبير، وقال أبو الحسين بن فارس: "الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية والحرث، يقال: استجزته فأجازني، إذا أسقاك ماءً لماشيتك أو أرضك، كذا طالب العلم علمه فيجيزه.فعلى هذا يجوز أن تقول أجزت فلاناً مسموعاتي.

ومن جعل الإجازة إذناً وهو المعروف يقول: أجزت له رواية مسموعاتي، ومتى قال: أجزت له مسموعاتي فعلى الحذف كما في نظائره، قالوا: إنما تستحسن الإجازة إذا علم المجيز ما يجيز، وكان المجاز من أهل العلم، واشترطه بعضهم وحكي عن مالك"[1].

أما أركانها: فقد قال الإمام الشَّمني في تعريفها وأركانها: الإجَازة في الاصطلاح: إذنٌ في الرِّواية لفظًا، أو خطًّا، يُفيد الإخبار الإجمالي عُرفًا، وأركانها أربعة: المُجيز، والمُجَاز له، والمُجَاز به، ولفظ الإجَازة[2].

المسألة الثانية: أنواع الإجازة:

1- إجازة مُعَيَّن لمُعَيَّن: كأجزتك لكتاب البخاري، أو أجزت فلاناً جميع ما اشتمل عليه فهرستي، أو أجزتك رواية السنن، فهذه إجازة معين في معين.

2- إجازة معين في غير معين: كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي.

3– إجازة العموم. والصحيح جواز الرواية بهذه الأقسام، كما حكاه غير واحد من أهل العلم.

4- إجازة المعدوم: كأجزت لمن يولد لفلان، وقد أجازها بعضهم، والصحيح المنع، ولو قال: لفلان ولمن يولد له أو لك ولعقبك، جاز كالوقف، لأنه تبع للمجاز الحاضر. أما الإجازة للطفل الذي لم يميز فهي صحيحة، لأنها إباحة للرواية، والإباحة تصح للعاقل وغيره على الصحيح.

5- إجازة المُجاز: كأجزت لك ما أجيز لي.

فائدة: وتستحب الإجازة إذا كان المجيز والمجاز له من أهل العلم، لأنه بها أحرى، وبحملها أولى، وينبغي للمجيز بالكتابة أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة صحت.

المسألة الثالثة: تنبيهات مهمة حول الإجازات وطلابها:

التنبيه الأول: على طالب الحديث التنبه لمسألة الإخبار والرواية بالإجازة، كما قال ابن دقيق العيد: "أنَّه لا يَجُوز في الإجَازة أخبرنا، لا مُطلقًا، ولا مُقيدًا، لبُعد دلالة لفظ الإجَازة على الإخبار، إذ معناه في الوضع الإذن في الرِّواية" أهـ.

إلا أن بعضهم تجوز في ذلك بالتقييد، فيقول: "أخبرنا إجازة"، وعلى هذا درج بعض المتأخرين في زماننا، كما درجوا على قولهم فيما يروى بالإجازة بـ"عن" أو "أنبأنا"، خلافًا لما درج عليه الأولون بأن "أنبأنا" تفيد السماع، والله أعلم.

التنبيه الثاني: كذلك التنبه لمسألة الاستجازة بعد السماع، كما قال ابن عتَّاب الأندلسي: "لا غنى في السَّماع عن الإجَازة، لأنَّه قد يَغْلط القارىء، ويغفل الشَّيخ أو السَّامعون، فينجبر ذلك بالإجَازة، وينبغي لكاتب الطباق أن يكتب إجازة الشَّيخ عقب كتابة السَّماع".

التنبيه الثالث: كذلك مسألة المعرفة لما أجيز فيه، وما يرويه عن شيخه، والتحقق من أنه مروياته، أو مسموعاته، خاصة فيما يروى بالإجازة العامة المطلقة.

كما قال ابن الصَّلاح، وحكاه السيوطي: وسَواء قُلنا: إنَّ الإجَازة في حُكم الإخبار بالمُجَاز جُملة أو إذن، إذ لا يُجيز بما لا خبر عندهُ منهُ، ولا يُؤذن فيما لم يملكهُ الآذن بعد، كالإذن في بَيْع ما لم يملكه.. فَعَلَى هذا يَتعيَّنُ على من أرادَ أنْ يروي عن شيخٍ أجَاز له جميع مَسْمُوعاته أن يبحثَ حتَّى يعلم أنَّ هَذَا مِمَّا تحمَّلهُ شيخهُ قبل الإجَازة[3].

ولعل هذا مما يجب الاعتناء به من طالب الحديث، ذلك أن بعض أهل العلم ذهبوا إلى ضعف الرواية بالإجازة العامة المطلقة كقول أحدهم "أجزتك جميع مروياتي وما يصح عندك عني" ولا يعين له شيئًا يرويه خاصة فيما وقع بالمناولة، فهذا تكلموا فيه، ونبه عليه العلامة عبدالفتاح أبو غدة في تحقيقه للأوائل السنبلية، في كلامه على رواية لابن الجوزي، وقد نقل قول الخطيب البغدادي في كتابه "الكفاية في علم الرواية":

التنبيه الرابع: الغرام برواية المسلسلات بلا ضوابط: وهذا من أخطاء بعض طلاب الحديث والسنة، فإن طلب المسلسلات وروايتها من الأهمية بمكان، إلا أن الغرام الزائد بها يوقع صاحبها في مهالك ومعاطب، كأن يتعلق قلبه ببعض البدع وأهلها، حبًا للرواية عنهم بالتسلسل الحاصل، كمن يروي أحاديث تلقين الذكر والسبحة والخرقة، وغيرها، وهي واهية الضعف، بل وخاوية على عروشها، وهذا مع مرور الزمان ومضيه ربما أفضى ببعضهم إلى الميل لأهل البدع، أو أقل أحواله المداهنة لهم، والسكوت عن بدعهم، وهذا من الخطورة بمكان، فليتفطن لهذا طلاب الحديث والأثر، وربما وجدت أحدهم يقول، أروي مئات الأحاديث المسلسلات بأسانيد عالية، والحق أنها واهية.

فالأولى التحري والدقة، وللعلماء في هذا تفصيل، حيث بينوا أصحاب البدع المغلظة، أو الكفرية، والدعاة الرؤوس إلى بدعهم، ومن هم دون ذلك، وجواز الرواية فيما دعت إليه الحاجة لحفظ الإسناد، واتصال الرواية، وهذا فيمن هم دون من ذكرنا، وقد روى عن بعض المبتدعة أئمة من أهل الحديث والعلم فيما دعت إليه الحاجة مع البيان.

ولو نظرنا إلى صحيحي البخاري ومسلم - رحمهما الله - لرأينا الإمامين يرويان بعض الأحاديث عن بعض أهل البدع كالشيعة وغيرهم، لأن الراوي ثقة في باب الرواية والنقل، أو لكون بعضهم سمع قبل دخول البدعة على عقيدته، أو لغيرها من الأمور.

وهكذا كان يتعامل أهل الحديث في الرواة أيضًا، فيقولون: صدوق، يهم، أو صدوق فيه تشيع أو يدلس، أو غيرها من العبارات، وقد جاء في لسان الميزان لا بن حجر العسقلاني - رحمه الله - كثيرًا، كقوله: "خازم بن محمد بن خازم أبو بكر القرطبي: روى عن يونس بن مغيث وغيره.

قال ابن بشكوال: كان قديم الطلب وافر الأدب ولم يكن بالضابط وكان يخلط في ما سمعه وقفت له على أشياء قد اضطرب فيها، وكان أبو مروان بن السراج ومحمد بن فرج الفقيه يضعفانه، وقال أبو جعفر بن صابر الحافظ المالقي في تاريخه: هو ضعيف مات سنة ست وتسعين وأربعمائة وآخر من روى عنه محمد بن عبدالله بن خليل.".

وجاء في "العبر في خبر من غبر": "سويد بن سعيد، أبو محمد الهروي الحدثاني، نسبة إلى الحديثة التي تحت عانة، سمع مالكاً وشريكاً وطبقتهما، وكان مكثراً، حسن الحديث، بلغ مئة سنة، قال أبو حاتم: صدوق كثير التدليس."، اهـ والله أعلم.

التنبيه الخامس: ترتيب الإجازات: فكثير من المستجيزين لا يعرف كيف يجمع تلك الإجازات والاستدعاءات التي بين يديه، ولا يعرف كيف يستفيد منها، والمتأمل في هذه المسألة يرى أنها تختلف باختلاف الطلاب وأحوالهم.

فمنهم: من يجعل الإجازات مرتبة على طريق التأريخ، فيجمع الأقدم فالأقدم، بحسب التواريخ التي أجيز بها من شيوخه ومسنديه...

ومنهم: من يجعلها مرتبة على طريقة كتب الحديث، فيجعل في المقدمة الصحيحين، ثم السنن الأربعة، والدارمي، والموطأ، والمسند، وهكذا..

ومنهم: من يرتبها على طريقة المصنفات والموضوعات، فيجعل إجازات العقيدة أولًا، ثم القرآن، ثم الحديث، ثم الفقه، ثم اللغة، ثم سائر العلوم الأخرى...

ومنهم: من يجعلها مرتبة على حسب حروف المعجم بأسماء شيوخه، فيذكر إجازات الشيخ الفلاني، الذي يبدأ اسمه بحرف الألف، ثم الباء، ثم التاء، وهكذا..

ومنهم: من يجعلها مرتية على طريقة البلدان، كمعاجم البلدان، فيرتب أسماء شيوخ ومروياتهم بحسب البلد، فهؤلاء شيوخ الحرمين، وهؤلاء من الحجاز، ثم حضرموت اليمن، ثم العراق، ثم الشام، ومصر، وبلاد الهند، والباكستان.. وعلى المجاز أن يختار من هذه الطرق الأفضل والأنسب له، وإن كنا نرى أنه ربما لا يستغني بطريق واحد، لأن التنوع مطلوب.

التنبيه السادس: الإجازات ليست علمًا بذاتها: وهذا تنبيه مهم لبعض الطلاب والفضلاء المجتهدين في طلب الإجازات، والبحث عن شيوخ الإسناد والرواية والأثبات، خاصة أصحاب العلو منهم، والحامل عليه أن بعضهم يظن بحاصل الحال في جمع الإجازات، أنه بذلك حاز السبق، وجمع الرتب بأعالي الأسانيد، وبلغ السماء بإجازات الشيوخ والمسندين.

والحق أن بعضهم لا يحسن قراءة الفاتحة ضبطًا وأداءًا، ولا يحسن التجويد فنًا وإتقانًا، ولم يجمع من العلم في فنونه كالعقيدة والفقه والتفسير واللغة، إلا ما يجمعه ربما الطفل المبتديء، ثم هو مع ذلك يفخر بأسانيده، على أقرانه وزملائه. وربما انتقص بها من الفضلاء من شيوخه وعلمائه، وحسب المسكين أنه من الكبار المسندين، والعظماء الفاتحين، وهذا من تلبيس إبليس، وهوى النفس بالتلبيس.

والحق أن الإجازات مهمة لطلب الرواية والاتصال والعلو، إلا أنها لا تنفع صاحبها قط، إلا إذا سلك السبيل في طلب العلوم مذاكرة وفهمًا وتلقينًا، وجالس العلماء والأكابر في فنونهم وعلومهم مدارسة واستماعًا، وجثى على ركبتيه السنين الطوال، والأوقات الغوالي، ونحن نتكلم هنا على طالب العلم والحديث، لا على صحة الرواية في العموم، فتلك مسألة أخرى، نشير إليها فيما يأتي.

قال الإمام الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: "فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث، وكثير منها مَرَاقٍ إلىالعلم، وأكثرها أمور يُشغف بها المحدث: من تحصيل النسخ المليحة، وتطلّب العالي،وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب والثناء! وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد،إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا الأعمال الربانية.فإذا كان طلبكالحديث النبوي محفوفا بهذه الآفات، فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟ وإذا كان علمالآثار مدخولًا، فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل، التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة، التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين" اهـ.

المسألة الرابعة: التشدد والتساهل في الإجازة:

وهذا أمر ملاحظ بين، خاصة لمن جرب وعرف، ورحل وارتحل للشيوخ والمسندين، فتجد أن بعض المسندين يتشددون في مسألة الرواية والإجازة، فيسأل الطالب أسئلة ربما فر من الجواب عليها، كأن يقول له: شرطي أن تقرأ علي كتاب كذا وكذا وكذا أولًا، أو تسمع لي عامًا أو عامين! أو تحفظ الصحيحين ثم تنال الإجازة! وهذا عجيب حقًا، أو كمن لا يجيز بالعامة إطلاقًا، بللا بد من القراءة عليه في كل كتاب! وهكذا.

بينما نجد آخرين يخالفون هذا النهج كلًا وبعضًا، فيجيزون كل من هب ودب، عالمًا كان أو جاهلًا، ويفرحون بذلك، ويعلنون أنهم أجازوا من الطلاب فلانًا وفلانًا، دون أن يعلوا هممهم لطلب العلم، أو معرفة آدابه، أو الازدياد من حفظ القرآن، والحديث، ودراسة العلوم الشرعية والأصول، كالتوحيد، والتفسير، والفقه وغيرها.وهنا يصبح الشيوخ طرفي نقيض، والحق أن الأمر فيه وسط واعتدال، فمن عُرف فيه اتباع السنة، وسلوكه طريق العلم، ومطالعته لكتب أهل العلم والسنة والتفسير، ومجالسته لحلق العلم والشيوخ، فهذا يُعطَى الإجازة بلا شرط.

وإذا كان من شرط، فمعرفة حاله في العلم، ودراسته وتحصيله على الشيوخ، وكم يحفظ من القرآن، أو الحديث، مع المناصحة له بزيادة الطلب، وعلو الهمة، واتباع السنة، وتوقير العلم وأهله، والحذر من البدع وأهلها، فتقع له الإجازات كالحافز والدافع نحو المعالي.

أما التشدد فيها فينفر طلاب السنة والحديث، ويفتح الباب لأهل البدع والأهواء، لجذب طلاب الحديث والعلم، بل وإعطاء الإجازة بأيسر الطرق وأقربها، وهذا لا شك منزلق خطير، فصيانة العلم وطلابه لا تتم بالتشدد الزائد في غير محله. كما أن التساهل فيها أيضًا بلا ضوابط مرعية، يجعل العلم مطية سهلة لكل من هب ودب بلا خطام أو زمام، فيدخل في القوم من ليس منهم، ويتصدر من ليس بأهل، والوسط ما ذكرنا، والله أعلم.

المسألة الخامسة: التصدر للإجازة والقول فيه:

وهذه من المسائل التي يكثر في الآونة الأخيرة الحديث حولها، والقول فيها أن لأهل العلم فيها مناقشات وبحوث وأقوال، تنتهي بأن نقول أن الأولى في حق طالب العلم المبتدئ، ألا يتصدر لها، ولا يحدث بها، وهناك من هم أولى منه، وأعلى علمًا وسنًا وسندًا. لأن التصدر سيكون سببًا في انقطاع بعض الناس عن الأكابر، وكذلك انشغال الطالب نفسه عن حقيقة طلب العلم وبلوغ حد الكمال، والأكمل ألا يتصدر إلا إذا كان قد بلغ الحد المقبول من التأهل العلمي الصحيح، والذي يتيح له أن يقف على مفازة الطريق، ويتقدم للصدارة والإجازة.

ويوضح هذا أن يكون أولًا: ضابطًا لمروياته وأسماء الرواة، والألقاب، والكنى، والبلدان، وكذلك أصوله من المتون التي يعلمها، ويجيز بها.

وكذلك يتحقق: بالعدالة والمروءة التي هي من أصول الرواية، هذا أقل أحوال المتصدر للإجازة، ولا يشترط فيه حد السن في أصح أقوال أهل العلم، وإن كان منهم من قال لا يحدث قبل الأربعين، أو الخمسين، والصحيح أنه يتصدر إذا حقق ما أشرنا إليه، وإذا دعت الحاجة لعلمه ومروياته، والحال يختلف من بلد لأخرى بحسبه، وربما إذا كان يدرس لجمع من الطلاب فيحفزهم مع التدريس بمنح الإجازة فجيد، كما قاله غير واحد من الفضلاء، وقد تصدر جماعة من السلف وهم دون الثلاثين، كالإمام ابن عباس والشافعي، وغيرهما، والأمر بحسبه.

وفي التحذير من التصدر قبل التأهل، يقول أبو بكر الشبلي- رحمه الله -: "من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه". وقال الإمام مالك - رحمه الله -: "ينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خيرًا، فقد كان رسول الله وهو إمام المسلمين وسيد العالمين يُسأل في الشيء، فما يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء". وقال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: "من طلب الرئاسة في غير حينه، لم يزل في ذل ما بقي، واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يعد فيها ناقصاً، وبتعاطيه إياها ظالماً". وقال العلامة العثيمين في "مجموع الفتاوى" - رحمه الله -: "مما يجب الحذر منه أن يتصدر طالب العلم قبل أن يكون أهلاً للتصدر، لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلاً على أمور:

الأمر الأول: إعجابه بنفسه حيث تصدر فهو يرى نفسه علم الأعلام.

الأمر الثاني: أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور، لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، إذ أن الناس إذا رأوه متصدرًا أوردوا عليه من المسائل ما يبين عواره.

الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده، أنه لا يبالي ويجيب على كل ما سئل، ويخاطر بدينه وبقوله على الله- عز وجل- بلا علم.

الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق؛ لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلاً على أنه ليس بعالم" اهـ. كما أننا نقول: إذا تصدر الأكفاء والأعلام، فإن بركة علو الأسانيد تكون حاصلة، وبركة تصدر الأكابر تكون واقعة، والجمع بين علو العلم، وعلو الإسناد أمر عظيم. أما اشتراط بعض أهل العلم فيه حد الفقه وسعة العلم، فهو ليس بواجب فيما يظهر، والله أعلم، لأن غاية الراوي ضبط ما يرويه، وعدالته في مروياته، وهذا مدار القبول للحديث، فإذا تفقه فيه فهو غاية الكمال والضبط، ويؤيد هذا القول الحديث النبوي الشهير: "ليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ حامل فقه ليس بفقيه"، وفيه حث على البيان والدعوة والتبليغ.

وكذلك حديث: "نضَّرَ الله وجْهَ امرئ سَمِع مقالتي فحمَلها، فرُبَّ حامل فِقْه غير فقيه، ورُبَّحامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه". وفي لفظ آخر: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع". ففي هذا الحديث دلالة على الأداء مع الضبط لما سمع، والعدالة بالصدق فيما يرويه ويبلغه، وقد قال العلامة الشيخ صالح آل الشيخ في "فضل الدعوة وثمرتها":

"هذا معناه الدعاء له بأن يزين الله وجهه يوم القيامة وأن يبعث فيه النور في الدنيا، "نضر الله وجه امرئ" يعني: زين الله ونوّر وجه امرئ سمع فأدى، فإذا كان هذا الفضل فيمن سمع فأدى وهو ليس بعالم فيما سمع وفيما أدى، فكيف بفضل من وعى بعده تلك المقالة، فعمل بها وعلمها لاشك أن فضله عظيم".

وكذلك قال صاحب "دليل أرباب الفلاح" حافظ الحكمي: "ومعلوم أنه لم يعتن أحد بهذا التبليغ والسماع والتأدية ما اعتنى به أهل الحديث، حتى إن أحدهم ليسافر المسافات البعيدة، ويعاني من التعب والمشقة ما الله به أعلم في طلب حديث واحد، أو حديثين ليسمعه فيعيه فيؤديه كما سمعه، فلا أحد أولى بهذه الدعوة منهم".

نشر في شبكة الألوكة

____________________

[1] انظر: تدريب الراوي للحافظ السيوطي.

[2] المصدر السابق.

[3] تدريب الراوي: للحافظ السيوطي.

   
 

 

   
 

 
    العودة إلى الخلف          اطبع هذه الصفحة أضف هذا الموقع للمفضلة لديك