الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده،
نبينا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم،
أما بعدُ:
فإن المتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يرى أن منهج
الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، قائم في حقيقة الأمر على
تعظيم نصوص الوحيين القرآن والسنة، وكمال التسليم لهما،
أما المخالفون لمنهجهم وطريقهم من أهل البدع والأهواء، فقد
زلت أقدامهم، وضلت عقولهم في ذلك، فحرفوا، وغيروا، وبدلوا،
وأولوا، ووقعوا في الفتنة والزيغ والضلال، فضلوا وأضلوا عن
سواء السبيل.
وإن الحق والهدى والنجاة في متابعة ما كان عليه أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم،
ولهذا جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم الميزان الحق حين
وقوع الفتن والافتراق في أمته كما جاء في الحديث المحفوظ
المشهور حديث الافتراق الذي وقعت فيه الأمم، والذي يقول
فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى
وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة،
وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا
واحدة». قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما
أنا عليه وأصحابي». وفي بعض الروايات: «هي الجماعة». رواه
أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على
شرط مسلم، ومن هنا وقع كثير من الاختلاف والافتراق في كثير
من الأحكام بسبب سوء الفهم للإسلام، وتفرقت هذه الفرق هي
الأخرى إلى فرق شتى، فكان من اللازم التصدي لهذه الفرق
وبدعها التي أحدثتها في الإسلام.
ولقد وقف المنهج السلفي على طول التاريخ الإسلامي كله أمام
كل هذه الفرق والمذاهب التي فارقت وخالفت الكتاب والسنة
وما أجمع عليه الصحابة والتابعون، بدءًا من الخوارج
والقدرية والشيعة والمرجئة ومن سار على منوالهم، وقارع بعض
الصحابة هؤلاء من أمثال عبد الله بن عباس وابن مسعود رضي
الله عنهم جميعًا.
كما تصدى جاهدًا أمام العقل المعتزلي والفلسفي، وأصحاب
التأويل والتعطيل، وبين فساد ما ذهبوا إليه وخالفوا فيه من
الحق والسنن، وفي العصر الحديث اليوم وقف المنهج أيضًا
بقوة وثقة ثابتة أمام التيارات والأفكار والمذاهب المحاربة
للإسلام من الشيوعية الماركسية والعلمانية والاشتراكية
وغيرها وما تولد منها.
وقف ليبين للناس معالم الطريق والتمكين، ومعالم الشريعة
والدين، ومعالم الحضارة الإسلامية المثالية الأرقى، ولهذا
لم يتوقف هؤلاء عن معاداته والتشهير به، والنيل منه،
والكيد له ولأتباعه، ورميهم بالتخلف والجمود والرجعية
والأصولية.
* أما اليوم فصار له دور كبير جديد، يضاف إلى دوره الأول
من التصدي للمناهج المخالفة، وذلك من خلال عدة أمور نبرزها
في مقالنا هذا:
الأول:
التصدي للمناهج والمذاهب والفرق القديمة والمعاصرة وكذلك
الدخيلة، التي خالفت منهاج الكتاب والسنة وفهم السلف
الصالح، مع بيان الحق في ذلك بأدلته الصحيحة، من فرق
البعثية، والاشتراكية، والقومية، والقاديانية، والبهائية،
والعلمانية، والوجودية، وغيرها، وما سواها من الفرق
والمذاهب، وما بقي على شعاره القديم كالشيعة، والرافضة،
والنصيرية، والإسماعيلية، والخوارج، ونحو ذلك.
الثاني:
العمل على إحياء الإسلام وفق منهج السلف الصالح، وتصفية
الإسلام وشريعته مما علق به من المخالفات والبدع والأهواء،
إضافة إلى تشويه صورة الإسلام الصحيحة، وهذا ولا ريب دور
كبير وجليل، وقف منه الاتجاه السلفي موقفاً حازماً، ولكن
يحتاج إلى مزيد بيان ومنهجية، حتى تستبين معالم الطريق.
الثالث:
العمل على تأهيل الأمة الإسلامية لمرحلة الخلافة الراشدة،
وإقامة دولة الإسلام التي توحد الأمة على تحكيم شريعة
الكتاب والسنة الصافية، من خلال اتباع منهاج النبوة
الهادي، والتربية الرشيدة، والبناء القويم، والفهم السديد،
والإعداد السليم، كما جاء في الحديث المحفوظ عن حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون, ثم يرفعها
إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة,
فتكون ما شاء الله أن تكون , ثم يرفعها إذا شاء الله أن
يرفعها, ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون,
ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون ملكًا جبرية فتكون
ما شاء الله أن تكون, ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها, ثم
تكون خلافةٌ على منهاج النبوة, ثم سكت». رواه أحمد.
وهذه الخلافة الموعودة هي التمكين الرباني من الله تعالى
لدينه وأوليائه في الأرض، وقيامهم بهذه الدعوة الإسلامية
الصافية من جديد، وهذا لا يتأتى إلا ببذل النفوس والأموال
والأوقات دونه، ولا يتأتى إلا بالتضحية الصادقة لهذا
المنهج، ولا يتأتى إلا بعد أن يبدوا هذا المنهج صحيحًا
واضحًا، اعتقادًا وقولاً، وفهمًا وعملاً، وفق منهاج الكتاب
والسنة وما كان عليه السلف الصالح من صدر الإسلام الأول.
وكما ذكرنا فإننا نؤكد على وجوب سلوك هذا المنهج الرشيد في
دعوة الناس إلى الاستقامة على الإسلام من جديد، وإيجاد
الوعي الإسلامي الصحيح الخالي من الشوائب والبدع، لأنه
المنهج الوحيد الكفيل بإذن الله تعالى بالتمكين لهذه الأمة
الإسلامية، وعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة
الأولى، وهو المنهج الكفيل ببناء حضارة إسلامية مثالية،
كما تمثلت كذلك طيلة القرون الماضية، وذلك لما يحمله من
نظم هادية جامعة قويمة في العقيدة والعبادة والتشريع
الوسطي الشامل، ولقد مكن الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم
في الغربة الأولى للإسلام في زمان النبوة، باقتفائهم هذا
الطريق وهذا المسلك للكتاب والسنة، ولا يصلح آخر هذه الأمة
إلا بما صلح به أولها.
وطريق التمكين اليوم، طريق طويل وشاق، وقد أودع الله تعالى
في كتابه وكونه سنناً ربانية جارية، لإقامة هذا الدين في
الأرض وفي دنيا الناس، وفصل لنا سبحانه معالم التمكين
لدينه وشريعته، ودل عليها وأمر بها، كما قال تعالى: {وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[النور:55].
ولا ريب أن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة وملحة
إليها، لما حل بالعالم كله من البلايا والرزايا والعقوبات
الربانية، في شتى جوانب الحياة البشرية الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، التي تجري في
الكون وفق السنن الربانية التي أرادها الله تعالى، فمن وفق
إليها وفق لطريق النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، ومن
خذل عنها فهول المخذول، ولعلنا وقفنا فيما أشرنا إليه من
قبل، أن طوق النجاة، وطريق التمكين لهذا الدين إنما منطلقه
الأول والرئيس، في العودة الجادة الصادقة لهذا الدين،
وشريعته المنزلة المتمثلة في هدي الكتاب والسنة والاعتصام
بمنهج وفهم الصدر الأول من سلف الأمة ابتداءً من الصحابة
والتابعين رضي الله عنهم جميعاً، وكما جاء في الحديث:
«فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا
كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ
فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ
فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا
بِالنَّوَاجِذِ».
فالواجب الذي لا بد منه اليوم على الأمة الإسلامية كلها؛
من الحكام والمحكومين، والعلماء والمتعلمين، والرجال
والنساء، والشباب والفتيات، أن تبدأ الطريق الصحيح للبناء
والعطاء والحضارة، ذلك البناء الذي يليق بمكانتها الربانية
والتاريخية السامية، وأن تبدأ بالعودة الجادة إلى هدي ربها
وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وتحكيم أحكام الإسلام
وشريعته الغراء في جميع شئون حياتها، وليس في الحكم فحسب،
بل في مأكلها ومشربها وملبسها، وعلمها وتعليمها، وأخلاقها
وآدابها، وعقيدتها وعبادتها، واقتصادها وسياستها، وكل
نظامها وأمورها، وأن تستقي مناهجها وأفكارها وإبداعها من
نظام الإسلام العظيم المحكم الشامل الكامل الخالد، الذي
أنزله الله تعالى لها.
فإذا تحققت الأمة الإسلامية بما ذكرنا، وتأهلت لمرحلة
الخلافة الراشدة، عندئذ يأتي وعد الله ورسوله لها بالنصر
والعز والتمكين، فقد وعد الله تعالى بأن يظهر الإسلام على
الدين كله، ولن تستطيع أي قوة في الأرض أن تقف له، أو أن
تمنعه من الزحف والتقدم إلى قلوب الناس مهما كان شأنها
وسلطانها كما أخبر بذلك في كتابه العزيز: {هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ} [التوبة 33]. وقال تعالى: {هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
شَهِيداً} [الفتح 28]، والحمد لله رب العالمين.
* * * |