الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة
للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين.
أما
بعد:
فإن
المستقرئ لتاريخ الدعوة الإسلامية منذ
العصر الأول، والجيل القرآني الفريد - جيل الصحابة رضي
الله عنهم - ثم التابعين لهم، ثم ظهور الفرق والمذاهب
والآراء المخالفة لمنهجهم، ولما كانوا عليه قبل موت النبي
- صلى الله عليه وسلم -، يرى هذه القاعدة الجليلة ألا وهي:
تعظيم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، واضحة جلية في
حياة الصحابة والتابعين وفي طريقة تعاملهم مع الكتاب
والسنة، لأن تعظيم نصوص الوحيين هو المنهج المتبع عند
الصحابة وتابعيهم من الأئمة الأعلام رضي الله عنهم،
وآثارهم كثيرة أكثر من أن تحصى.
ويدخل في تعظيمهم للنصوص الشرعية هذه
القواعد الثلاثة:
•
الإيمان بجميع النصوص الشرعية.
•
رد التنازع إلى الكتاب والسنة.
•
الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم[1].
وهذه القواعد أو الأصول تحتاج إلى بيان
ووقفات حتى تتضح لنا معالم هذا الطريق، وحتى نتبين الفارق
الكبير بينهم وبين المخالفين لهم من أصحاب الفرق والمذاهب،
الذين وقعوا كثيراً في دوائر مختلفة ومتناقضة في طريقة
تعاملهم مع نصوص الوحيين الصافيين الكتاب والسنة، ومنهجهم
وانحرافهم بسبب سوء الفهم والتأويل الباطل لها.
♦ ♦ ♦
القاعدة الأولى: الإيمان بجميع النصوص
الشرعية:
فالإسلام هو الشريعة الخالدة الباقية إلى
أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وهذا الدين تنبني
أدلته وشرائعه على نصوص الوحيين: الكتاب المنزل [القرآن
الكريم]
والرسول المرسل [السنة
النبوية].
ولقد وقف الصحابة رضي الله عنهم موقف
التعظيم لهذين الوحيين، وموقف الإجلال والتسليم كما أخبر
سبحانه وتعالى في كتابه عن أهل الإيمان الحق بقوله تعالى:
﴿
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا
﴾ [النساء: 65]. وقوله تعالى: ﴿
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا....
﴾ الآية [الأحزاب: 36]، وآيات أخرى كثيرة في هذا الباب.
فحقيقة الإيمان لا تقف كما يتوهم البعض عند
الاتباع الظاهر للنصوص الشرعية فحسب كلا، بل تتمثل هذه
الحقيقة في كمال التسليم والإذعان لحكم الله ورسوله - صلى
الله عليه وسلم -، وكمال الرضى النفسي والقلبي بهذا الحكم
الذي حكم به، وهذا كمال الإيمان "ويسلموا تسليماً"، قال
ابن كثير عليه رحمه الله في تفسيره: "يقسم تعالى بنفسه
الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى
الله عليه وسلم - في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي
يجب الانقياد له باطناً وظاهراً ولهذا قال ﴿
ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا
﴾.
ولقد سلم الصحابة رضي الله عنهم لله ورسوله
في كل حياتهم فجعلوا أنفاسهم ترافق أنفاسه، وتصاحب أرواحهم
روحه، فتتبعوا الأثر، ولزموا الغرز. وما كان تسليم عمر بن
الخطاب رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحبة
أكثر من نفسه، إلا دليلاً على كمال الإيمان والمحبة
والمتابعة، وكذلك تسليمه يوم الحديبية وموقفه وكلام النبي
- صلى الله عليه وسلم - له.
وكلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه كذلك،
بل وقول الصديق لما أخبر عن مسرى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأشهد لئن كان
قد قال ذلك، لقد صدق، وهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه
يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقولوا بها ودعوا ما قلته. ومثله بالمعنى جاء
عن الإمام أبي حنيفة ومالك وأحمد وكثير من أهل العلم
والتابعين رضي الله عنهم.
فقبول الوحي كله ظاهراً وباطناً مع التسليم
والإذعان كان دأب الصحابة جميعهم رضي الله عنهم والتابعين
لهم بإحسان.
لكن المخالفين لهم، وقعوا في بلايا ومحن،
لأنهم ما سلموا لله والرسول حق الإيمان والإذعان والتسليم،
وما أحسنوا كمال الإيمان بجميع النصوص الشرعية من الله
ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فوقعوا في رزايا أصابتهم
بأدواء وطوام، في عقائدهم ومناهجهم، وفي تعبدهم وسلوكهم،
ولا ريب أن الوقوف على هذه الأدواء يحتاج إلى بسط وبيان،
ولكن حسبنا أن نشير إلى بعض منها:
فمن ذلك:
أنهم لا يأخذون بكل الأدلة الواردة في الكتاب والسنة عندما
يوردون مسائلهم وتقريراتهم، وإنما يتناولون بعضها ويجزؤوها
حتى يأخذوا ما وافق قولهم وبدعتهم وضلالهم، ولا يلتفتون
إلى باقي الأدلة التي قد تخصص العام أو تقيد المطلق أو
تبين المجمل، وقد ذكر ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله:
"كثيراً ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة
غير صحيحة بالنظر إلى دليل ما"[2].
فالخوارج وقعوا في هذا الخلل الكبير وقطعوا
بعض النصوص فكفروا بها العصاة والمذنبين وحكموا عليهم
بالخلود في النار كالمشركين، وما تكفيرهم لعلي بن أبي طالب
وبعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك ببعيد.
وكذلك المرجئة وقفوا عند حد القول دون
العمل تعميماً لقوله تعالى: ﴿
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا
جَنَّاتٍ...
﴾ [المائدة: 85]، وهذا لأنهم لم يروا أن الأدلة تنفعهم أو
أنها سبب نجاتهم في الدنيا والآخرة، فزلت أقدامهم، وأخطأت
أفهاهم نصوص الوحيين، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
"سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهوائهم فلم
يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل
عليها"[3].
ومن ذلك:
اتباعهم أهوائهم حتى ردوا بها نصوص الكتاب
والسنة الثابتة الصحيحة، وخالفوا تأويل أهل العلم في مسائل
تصوروها معارضة للعلم والنصوص وهذا ولا ريب نوع وضرب من
اتباع الشيطان والأهواء، وعرض النصوص عليها، فما وافق
أهوائهم قبلوه، وما خالفها ردوه ولو كان من أصح الصحيح،
فردوا أحاديث الذبابة وسقوطها في الإناء، وردوا أحاديث
المهدي الثابتة في كثير من دواوين أهل السنة وأولوها.
ومنهم من تأول المسيح الدجال كذلك حتى
بلغني أن كاتباً كتب كتاباً يثبت فيه أن الدجال هو السامري
الذي كان في زمان نبي الله موسى عليه السلام، وهؤلاء هم
أصحاب المدرسة العقلية المزعومة الذين جعلوا عقولهم هي
الحكم الفصل، وأهوائهم هي الدليل والبرهان الذي لا يخطئ
فكانت البلية كما قال ابن القيم رحمه الله: "فجعلوا
المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله
ورسوله هو المتشابه، ثم ردوا متشابه الوحي إلى محكم كلامهم
وقواعدهم."[4].
ولا أدري كيف استطاعوا أن يجهروا بهذا
الباطل من القول، ويخالفوا قول رسول الله وقول أئمة الهدى
من بعده، ونسأل الله العصمة من الفتن.
ومن ذلك أيضاً:
هذه الفرقة التي سمت نفسها بالقرآنيين، الذين نفوا السنة
النبوية وألقوها وراء ظهورهم نفياً وإعراضاً وسخرية،
وقالوا ما نفعل بالسنة وعندنا كتاب الله فيه الحق والنور،
وفيه البيان الشافي والكافي، ووقفوا عند ذلك ليوهموا
الجهلة والرعاع أنهم متبعون للكتاب، ملازمون للحق والصواب،
ولكن هيهات هيهات.
كيف يتبعون القرآن فحسب وهم يقرأن مئات
الآيات التي تخبرهم وتأمرهم بوجوب متابعة النبي - صلى الله
عليه وسلم - وسنته وحكمه وشريعته، وحسبهم أن يقرأوا قول
الله تعالى: ﴿
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظًا...
﴾ [النساء: 80].. وقوله: ﴿
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ...
﴾ [الحشر: 7].
وهؤلاء الذين أطلوا علينا في هذا الزمان
أخبر عنهم رسول الله في قوله: "لا ألفين أحدكم متكئاً على
أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا
أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" أخرجه الترمذي بسند
صحيح. وهذا ما وقع فيه القوم.
ولا ندري من أين سيأتي أمثال هؤلاء بأركان
الوضوء كلها وسننه وآدابه، ومن أين سيأتون بعدد ركعات
الصلوات وسجودها وسننها وآدابها، أو الزكاة والحج والصيام،
من أين سيعلمون أن الجمع في الزواج بين المرأة وعمتها أو
خالتها محرم شرعاً، أو تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي
مخلب من الطيور، أو، أو، إلى آخره. وما كل هذه البلايا
والطوام، وهذه الرزايا العظام إلا من جراء نقض أو نقص هذه
القاعدة الجليلة من كمال التعظيم والتسليم لنصوص الشرع
الحنيف من كتاب الله وسنة رسوله في قلوبهم، وكما أخبر
سبحانه في كتابه عن أمثال هؤلاء: ﴿
لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ
اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
﴾ [النور: 63].
وهنا يظهر لنا الفارق الكبير بين هذه الفرق
والأهواء وبين الصحابة رضي الله عنهم في كمال تعظيمهم
وتسليمهم للنصوص الشرعية، وكمال الإيمان بجميع نصوص الكتاب
والسنة دون ترك شيئاً منها، ولا حتى ترك العمل بها.
القاعدة الثانية: رد التنازع إلى الكتاب
والسنة:
فالتنازع في المسائل والاجتهادات أمر وارد
عقلاً وشرعاً، وليس المقصود الاختلاف في أصول الدين
والشريعة وثوابتها، إنما فيما جاز فيه الاختلاف من المسائل
والأحكام، بسبب اختلاف الأفهام والعقول، وكذلك بسبب طرق
قبول الأدلة وصحتها من عدمها، ويدخل في ذلك تأويلها على
وجوه متفقة أو مختلفة، وقد أشار كثير من أهل العلم إلى هذه
الأسباب التي تجعل الاختلاف والتنازع أمر وارد بحسبه.
ولذا وجب رد الاختلاف والتنازع إلى مرجع
صحيح ثابت تؤخذ منه مناطات الأحكام والشريعة وأدلتها،
ويكون فيها الحكم الفصل فيما اختلف الناس فيه، وهذا لا
يكون إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم - كما أخبر تعالى بقوله: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
﴾ [النساء: 59]، وقول رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم
بهما: كتاب الله وسنة نبيه" وهو حديث صحيح ثابت.
وحقيقة رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله
إنما يكون ذلك لرفع محل الخلاف، لأن الاختلاف لا يكون في
المسائل ذاتها، وإنما يأتي على العقول والأفهام، ورفع
الخلاف فيها تبيين للصواب من الخطأ وللحق من الباطل في
المسائل المختلف حولها.
وكم تنازع الصحابة في مسائل ثم تبين لهم
وجه الحق فيها، مثال ذلك: ما كان من أصحاب رسول الله حينما
تأمر عليهم بعض الصحابة رضي الله عنهم فأمرهم أميرهم أن
يلقوا أنفسهم في نار أوقدها لهم من باب طاعة الأمير واجبة،
فأبى الصحابة إلا أن يرجعوا إلى رسول الله فقال لهم: لو
دخلوها ما خرجوا منها.
وطاعون عمواس بالشام واختلاف الصحابة فيه
مثال كذلك حتى أتاهم الخبر بأنه إذا نزل الطاعون بأرض أنتم
فيها فلا تخرجوا منها، وإن نزل بأرض وأنتم خارجها فلا
تدخلوا فيها، وترك الصحابة النزاع لما أتاهم النص الثابت
من كلام رسول الله، وهذا من كمال إيمانهم وتحريهم أيضاً
للدليل ورفع الخلاف، وكذلك القصة المشهورة قصة بني قريظة
وصلاة العصر فيها، واختلاف أفهام بعض الصحابة بين القول
ومفهومه ومنطوقه، فمنهم من صلى في طريقه ومنهم من لم يصل،
ولكنهم في نهاية أمرهم ردوا الأمر إلى رسول الله، فبين لهم
صحة ما ذهبوا إليه وما اختلفوا فيه بل وأقر كلا الفريقين
في فهمه وتعامله مع النص النبوي: "لا يصلين أحدكم العصر
إلا في بني قريظة". وكذلك مسائل من الصيام والعبادات
وغيرها كثيرة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد
موته.
فالمقصود إذاً:
أن تسليم الصحابة وردهم محل الخلاف والتنازع إلى الله
ورسوله، وليس هذا فحسب بل وتسليمهم الكامل للأمر والحكم هو
حقيقة تعظيم النصوص الشرعية وحقيقة الإيمان والتسليم بها.
أما الذين خالفوا طريق الصحابة رضي الله
عنهم ومنهجهم في رد التنازع إلى الكتاب والسنة، فقد وقعوا
في شراك الشيطان، وطرق أهل الأهواء والبدع، في تعاملهم مع
المسائل والأحكام المختلف فيها، فلم يجعلوا كتاب الله وسنة
رسوله هي الحكم عندهم، بل كان مرجعهم إلى ما لم يأذن به
الله ورسوله، فوقعوا في التقليد والمتابعة للأقوال والأئمة
والعلماء، دونما بصيرة أو هداية شرعية.
وذهبوا يأخذون أحكام الشريعة من المنامات
والرؤى والأحلام، والكشف والإلهام، وتبعوا عقولهم وأهوائهم
بل وصادموا بها أحكام الشريعة الثابتة كذلك تحت مسمى إذا
تعارض العقل والنقل قدم العقل على النقل.
وهذا خلل كبير في حقيقة الإيمان والتسليم
لنصوص الشريعة الثابتة، وقصور عن فهم أصول وقواعد الفهم
والاستنباط الصحيح للأدلة والأحكام، فضل هؤلاء وأضلوا،
وصار لهم مناهج وتصورات وأفكار ومدارس لها أصحاب وأقلام.
ولا أدل على هذا الكلام من هذه المذاهب
والفرق الثلاثة: الشيعة المبتدعة خاصة الاثنى عشرية،
والصوفية المبتدعة والملحدة، وأصحاب المدرسة العقلية
المزعومة، وكيف أنهم جعلوا أحكام الشريعة ومسائلها مردها
إلى غير كتاب وسنة، وهنا نقف سريعاً معها:
فالشيعة:
صاروا لا يعتمدون على القرآن ولا على السنة
ولا حتى على إجماع الأمة، وصاروا يعتقدون بجهل كبير، وسوء
فهم موروث أن أئمتهم من المعصومين وهذا معروف ومقعد عند
الشيعة الإمامية، ولا أدري كيف تجرأوا على قول ذلك؟ كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فصاروا لذلك
لا ينظرون في دليل ولا تعليل، بل خرجوا عن الفقه في الدين
كخروج الشعرة من العجين"[5].
والصوفية:
وقعت في تعظيم شيوخ طرقهم وأقطابهم، وقالوا
هم الأولياء فحسب وهم الأقطاب والأبدال، حتى صرفوا لهم في
قبورهم العبادات الشرعية التي لا تكون إلا لله تعالى وحده
لا شريك له، وكذلك وصفهم بتدبير الكون مع الله تعالى،
وتصريف أمور الخلق ونظرهم في المقادير. فيأخذون عن شيوخهم
كل ما صدر عنهم حقاً كان أو باطلاً، ولا يردون ذلك إلى
الشريعة والنصوص من الكتاب والسنة كما فعل الشيعة تماماً
مع أئمتهم، بل ويأمر هؤلاء باتباع الطرق الصوفية والاقتداء
بشيوخها وتقليدهم، فصاروا مقلدين لهم بلا هداية من الله
ورسوله.
واعتمدوا كثيراً على ما سموه الكشف
والإلهام من الرؤى والأحلام، وأن هذا الكشف مما اطلع عليه
الأولياء بعلمهم للغيب وأنها حق كأنها رؤيا الأنبياء
والرسل، وجعلوها مصادمة للقرآن والسنة، مضاهية لها كالحجة
والبرهان.
ولا نريد بسط الكلام وإلا صار الكلام
عليهم، وما أجل قول الشافعي رحمه الله تعالى: "كل شيء خالف
أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط، ولا يقوم معه
رأي ولا قياس، فإن الله قاطع العذر بقول رسول الله، فليس
لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر به ونهى عنه"[6].
أما أصحاب المدرسة العقلية:
فقد خالفوا كثيراً وعارضوا وجادلوا في نصوص
الوحيين من الكتاب والسنة النبوية، وصيروا عقولهم حكماً
وإماماً عليها، وجعلوا مرجع كل خلاف إليها، قال شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فكان من الأصول
المتفق عليها بين الصحابة والتابعين أنه لا يقبل من أحد أن
يعارض القرآن رأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا
وجده"[7].
فهذا حال الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، أما هؤلاء فلهم تأصيل فاسد بعقولهم، ولهم تقعيد
باطل بأفهامهم القاصرة عن إدارك الحق وتصوره، لأنهم في كل
جهودهم الطويلة يرمون إلى محاولة المواءمة والتوفيق بين
النصوص الشرعية المحكمة وبين ما أسموه معطيات الحضارة
الغربية.
ولست أدري هل نستمد شريعتنا وأصولنا من
معطيات بشرية قاصرة، أم أنها قد نزلت في منهج رباني فطري
من الله تعالى وحياً جلياً فيه الروح للأرواح والأبدان،
وفيه سعادة للأفراد والجماعات والأمم، وفيه المنهاج الأقوم،
فما لهؤلاء يتخبطون بعقولهم عن إدارك الحق، والوقوف على
أدلته الواضحة البينة لكل ذي علم وبصيرة.
لقد حاول هؤلاء التهوين من مكانة الإجماع
وحجيته، وحالوا رفضه أو تأويله، وحالوا بتلاعبهم في نصوص
الشريعة أن يلقوها في دائرة الفهم المقاصدي للإسلام دون
الوقوف مع حقيقة النصوص وظاهرها، ونحن لا ننكر هذا ولا
نقلل من شأنه، ولكنهم جعلوه عمدة منهجهم البحثي والعقلي
ليبطلوا به أحكاماً شرعية ثابتة، كما سمعت أحدهم يقول بأن
حد الردة ليس من الإسلام لأنه لا يدخل في مفهوم الفهم
المقاصدي للإسلام وأنه دين الرحمة والعفو والتسامح، وتشريع
حد الردة لا يتوافق مع أصل الرحمة في الإسلام ثم لا يتوافق
مع حرية الاعتقاد التي كفلها دين الإسلام، وكلامه هذا فيه
تلبيس وتدليس كثير، وخلل وقصور عن فهم حقيقة المفهوم
المقاصدي للإسلام وتشريعه الأحكام لبناء مجتمع إسلامي
نظيف.
وحاول هؤلاء كذلك تجميع الناس على أسس
اجتماعية فحسب دونما أن يكون بينهم رابط من التقوى
والإيمان، وإنما روابط الوطنية والقومية وما سموه
بالإنسانية أحياناً، ووقفوا أمام الجزية في الإسلام وحكمها
وحاولوا إبطالها، واختلاق أدلة مزعومة في ذلك وتأويلات
عقلية منكوسة تضاد أحكام الإسلام وشريعته الغراء.
ومن ذلك أيضاً:
الاعتماد الكبير على مبدأ التأويل للنصوص كما أولوا المهدي
وأحاديثه الصحيحة الثابتة وأنه ما هو إلا كناية عن نشر
الحق والعدل والسلام في الأرض، وأولوا المسيح الدجال بأنه
الفتن والشر الذي يكثر في آخر الزمان، بل وأنكر أناس منهم
الأصول الإسلامية العقيدية، فأنكروا عذاب القبر والنار
والبعث يوم الحساب، ومنهم من أنكر الجن ووجودهم ومنهم من
تأول وجودهم بكلام لا يرقى إلى الحق والصواب، ومنهم من
أنكر معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسية وانشقاق
القمر ونبع الماء.
ووقفوا مكابرين معاندين للأحاديث المتواترة
الصحيحة الثابتة ولو كانت أحاديث آحاد ورفضوها وحكموا
أهوائهم وعقولهم في كل ذلك.
وطعنوا في السنة ورواتها، من خيار الصحابة
والتابعين رضي الله عنهم، ومنهم من أنكر معراج النبي - صلى
الله عليه وسلم - وحديث الذباب وشق الصدر وملك الموت مع
موسى عليه السلام.
وخرج منهم المنادون بالتقارب بين الأمة
الإسلامية وأصحاب الملل والنحل الباطلة من اليهود والنصارى
والفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، وغير ذلك من الطوام
والبلايا، والافتراءات والتأويلات الباطلة والتحريفات
الكاذبة.
فأين عقول هؤلاء التي حكموها؟
وأين مناهجهم التي وضعوها؟ مما كان عليه
الكواكب النيرة، والأفئدة الطاهرة، والألسن الذاكرة،
والقلوب الخالصة من خيار وأتباع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - الصحابة الكرام، وأين ردهم ما اختلفوا فيه وفي فهمه
وإدراكه من قوله تعالى: ﴿
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ...
﴾ [النساء: 59]، وقوله: ﴿
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ....
﴾ [الشورى: 10].
القاعدة الثالثة: الإيمان بالمتشابه والعمل
بالمحكم:
ومن تعظيم النصوص الشرعية كذلك: الإيمان
بالمتشابه والعمل بالمحكم، مما في كتاب الله تعالى ووحيه
المنزل، كما قال تعالى عن حال أهل الإيمان: ﴿
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا...
﴾ [آل عمران: 7].
أما حال أهل الزيغ والضلال مما أسلفنا
ذكرهم وقولهم، فهم على خلاف أهل الإيمان فحالهم كما قال
تعالى: ﴿
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ...
﴾ [آل عمران: 9].
وجاء في الحديث:
"إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل
يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه
فردوه إلى عالمه". وهو حديث عند الإمام أحمد وصححه العلامة
أحمد شاكر. وقال الضحاك: نعمل بالمحكم ونؤمن بالمتشابه ولا
نعمل به وكل من عند ربنا. وهذا ما كان عليه الصحابة ومن
تبعهم وأئمة الهدى الأربعة وأئمة الحديث من أهل السنة
جميعاً، وما خالف في ذلك أحد إلا من شذ من أهل البدع
والأهواء والزيغ والضلال، الذين قالوا بتعارض الأدلة في
القرآن والسنة وتوهموا ذلك في نصوص كثيرة، ولو ردوا
المتشابه منها إلى المحكم لما صار هناك تعارض ولا تأويل
مخالف، لكنه اتباع الأهواء ومخالفة الطريق والهدى والسنة،
وهذه طرق أهل البدع والضلال في كل زمان ومكان، وما كتاب
شيخ الإسلام في درء ورد ما زعموا من تعارض العقل مع النقل،
إلا فقه بين لحقيقة هذه الفرق والمذاهب وخطرها على عقيدة
الإسلام وسائر شرائعه.
إن منهج الصحابة رضي الله عنهم والتابعين
قام حقيقة الأمر على تعظيم نصوص الوحيين القرآن والسنة،
وكمال التسليم لهما، أما المخالفون لمنهجهم وطريقهم من أهل
البدع والأهواء، فقد زلت أقدامهم، وضلت عقولهم في ذلك،
فحرفوا، وغيروا، وبدلوا، وأولوا، ووقعوا في الفتنة والزيغ
والضلال، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. وإن الحق والهدى
والنجاة في متابعة ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
______________________
[1]
انظر كتاب منهج التلقي والاستدلال للشيخ حمدي عبد الله
الفائز بجائزة أنصار السنة.
[2]
الاعتصام للشاطبي (ج1222/).
[3]
نفس المصدر (ج2176/).
[4]
الصواعق المرسلة (ج3/990).
[5]
منهاج السنة (ج6381/).
[6]
الأم (193).
[7]
مجموع الفتاوى (ج13/28). |