الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

الدعوة والتوازن بين العلم الشرعي والعمل الخيري

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين.

أما بعد: فإن الدعوة الإسلامية تَرتكِز دائمًا على جناحَين:

الأول: العلم النافع.

والثاني: العمل الخيري والتطوعي.

وأي تقصير يلحق الدعوة في أحد جانبَيها، فإنه يؤدي بدوره إلى إضعاف الدعوة وتأثيرها على جماهير الناس؛ ذلك أن طلب العلم مطلب شرعيٌّ، وضرورة لازمة للدعوة وجنودها، فلا يُمكن أبدًا أن يقود الدعوة أو يقوم على أمرها جاهل بالتوحيد والعقيدة وأصولها، والنبوة وأحوالها، والعبادة وأسرارها، والأخلاق وعظمتها، والشريعة وأغوارِها، كما لا يمكن أيضًا أن تقوم دعوة بدون ثمرة من العمل والبذل والعطاء والتضحية في سبيلها.

ولقد رأيتُ من التجارب في ذلك الكثير، ومن ذلك ما رأيت وعايشت في كثير من البلدان والقرى المصرية، خاصة في الوجه القبلي منها؛ فالناس هناك يُحبُّون دعوة الإسلام الصحيحة الصافية؛ لأنها دعوة قويمة تُعانق روح الفطرة في نفوسهم، وتأخذ بأيديهم للنَّجاة مِن شرور الفتن والشهوات والأهواء، ولهذا يلتف كثير من الناس والشباب حول بعض الدعاة هنا وهنالك مِن أبناء الدعوة عامة، والاتجاه السلفي خاصة؛ رغبةً منهم في الوصول إلى الخير والهدى والرشاد في دعوتهم.

إلا أنَّ الكثير من أبناء الدعوة لا يزالون يَنطلقون بها بين الناس على جناح واحد، ألا وهو جناح "العمل الخيري والتطوعي"، فنرى منهم جهدًا طيبًا مشكورًا في نشر حلقات تحفيظ القرآن والكتاتيب، ورعاية بعض الشيوخ والمساجد، وجمع الأطفال والشباب لحفظ القرآن وتعلمه وتجويده، وتشجيعهم بالجوائز والهدايا والرحلات، وكذلك إقامة بعض المؤتمرات والمحاضَرات الدعوية والتوجيهيَّة العامة.

وكذلك بالمساهمة في بعض الجمعيات الخيرية لمُساعَدة الفقراء المُعوِزين، والأرامل واليتامى والمحتاجين وغيرهم في الأحياء والقرى، وهذا من خلال جمع الصدقات والزَّكَوات وإعادة توزيعها، خاصة في شهر رمضان ومواسم الخيرات والطاعات، وربما زاد الجهد في بعض الأماكن الخيرية بالسعي في تزويج بعض الفقراء من الشباب المسلم وإعفافهم، وقضاء ديونهم، وقد عاينت تلك الأعمال الطيبة الجليلة في أكثر مِن مكان.

وكل هذا السعي والخير والعمل لا شكَّ أمر محمود ومطلوب شرعًا وواقعًا لدعم العمل الخيري والتطوُّعي مِن جانب، والنهوض بالدعوة الإسلامية من جانب آخَر، إلا أنَّ المؤسف حقًّا في دعوة أولئك الدعاة الكرام الأفاضل هو شدَّة تركيزهم في دعوة الناس على ذلكم الجانب الدعَوي الخيري التطوُّعي فحسب!

مع تركِهم، أو فلنقل: تقصيرهم الشديد في التركيز على الجانب العِلمي الشرعي التأصيلي لمسائل الشريعة والدعوة والفِكر، فلا تكاد تبرق العين برؤية عالم جامع بصير، أو طالب علم قويٍّ جَدير، يحمل بين جانبيه العلم كما ينبغي أن يكون بسعته وشموله، فيُبصِّر الجاهلين، ويَهدي الحائرين، ويُرشد السائلين، ويوقظ الغافلين، ويرغب المُعرضين، ويدفع شبهات أهل الفتن والأهواء المغرضين، ويُبيِّن للناس الصراط المستقيم.

نعم، نرى من أبناء الدعوة الخطباء المفوَّهين، والدعاة النابهين، الذين يجتمع حولهم الكثير من الناس هنا وهنالك، لكنهم لا يُحسنون غير ما يقولون، فإذا ما سُئل أحدهم في مسألة ما أو عدة مسائل، فلربما عجز عن الجواب أو تلعثم، وإن أجاب فبقولٍ لا يَهدي حائرًا، ولا يشفي عليلاً، فيخرج السائل يُكلِّم نفسه عن ذلكم الخطيب المفوَّه، والداعية المتكلِّم: لماذا عجز عن جوابي؟

لماذا لم يشفِ غليلي؟

لماذا لم يُسكن حيرتي؟

وهكذا كل سائل دواليك في حيرته، ولا جواب.

إنَّ إهمال هذا الجانب والتقصير فيه أمر خطر على الدعوة وشبابها؛ لأنَّ العلم الشرعيَّ أساس وقاعدة لكل عمل دعوي وخيريٍّ، ولأنَّ البعض ربما وقَع في الحيرة والاضطِراب مِن كثرة الفتن والأهواء من حوله، فهو يرى كثرة الجماعات والأحزاب والاتِّجاهات الفكرية المتصارِعة أحيانًا، فضلاً عن الفجوة والجفوة الموجودة بين أبناء الدعوة نفسها، فيقع في حيرة الصراع الفكري والنفسي، وقد يَترك الانغماس في الدعوة والسير في ركاب أهلها، ويظل يبحث زمنًا طويلاً عمَّن يَهديه سبيل الرشاد.

أين الطريق؟

ومع من يكون الحق؟

وهل هذه الجماعة أو تلك هي على الحق والكتاب والسنَّة؟

فيحتاج في تلك اللحظة الحَرِجة إلى العالِم البصير، والمُربِّي المستنير، الذي يُرشده إلى الحق برفق وحكمة وعلم، ويبين له الأدلة، ويوضِّح له المحجة.

ولهذا جاء الخبر النبوي في أهمية متابعة العلم والعلماء العاملين به، قبل أن يُقبَض العلماء، وتكثر رؤوس الجهل والضلال؛ فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا))؛ متفق عليه.

والبعض الآخر قد يَضعف عن العمل والدعوة والحركة والإصلاح، وقد يترك الميدان كله وينصرف إلى تجارة أو عمل أو غير ذلك، والسبب: ضعف الانتماء لهذه الدعوة، وضعف العلم بها وبأصولها وأدلتها وقوتها وعظمتها، وكذلك ضعف العلم بفضل الدعوة وشرفها ومكانتها، وأجر الداعية وثوابه ومكانته العالية عند الله عزَّ وجلَّ، وفضْل هداية الناس إليها، واستقامتهم على أمرها.

ولو أنهم وجدوا مَن يُبصِّرهم بفضل الدعوة وشرفها وشرف أهلها وعلو مكانتهم عند ربهم، ويُحفِّز نفوسهم وهمَّتهم لها، لكان ذلك أولى وأنفع وأصلح لهم وللدعوة، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].

وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تَبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا))؛ رواه مسلم.

وفي الحديث أيضًا عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المُنكَر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم))؛ رواه الترمذي.

أما إذا قام أهل الدعوة في كل قرية، أو منطقة بتفريغ أحد أبنائها أو بعض منهم لتعلم العلم الشرعي ودراسته وتأصيله؛ كالتفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه، والسيرة، والتاريخ وغيرها من علوم الإسلام، فلا شكَّ أنه بذلك يُغنيهم ويُغني أهل البلاد المجاورة أيضًا لهم، فتكون دعوتهم على علم وبصيرة وهداية، ويألفها الناس، ويَرغبون فيها؛ لأنها أعانتهم على فهم دينهم وعقيدتهم وعبادتهم كما أراد الله ورسوله، ثم لأنها أيضًا أعطت المحتاجين منهم والفقراء المُعْوزين ما يسد عَوزتهم، ويَستر عورتهم، ويَقضي دينهم، ويُفرِّغهم لطاعة وعبادة ربهم، وفهم دينهم وشريعتهم، وفي هذا الخير والرشاد والهدى ولا ريب.

ثم إنَّنا إذا قرأنا كتاب الله تعالى لوجدنا الدعوة الواضِحة القوية للنَّفير في طلب العلم وبثِّه بين الناس؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

يقول الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره: "هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأَنَّ المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم مُقيم لا ينفر، فيتركوه وحْدَه، ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ ﴾ [التوبة: 122] بعدما علموا أنَّ النفير لا يَسَع جميعهم ﴿ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ﴾ [التوبة: 122]، وتبقى بقيتها مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليتحملوا عنه الدين ويتفَقَّهوا، فإذا رجع النافرون إليهم، أخبروهم بما سَمِعوه وعلموه، وفي هذا إيجاب التفقُّه في الكتاب والسنَّة، وأنَّه على الكفاية دون الأعيان، ويدلُّ عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، فدخل في هذا مَن لا يعلم الكتاب والسُّنَن" ا هـ.

وروى الشيخان عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنَّما أنا قاسم والله يعطي)).

إنَّ النظرة التكاملية الشمولية في مقوِّمات الدعوة الإسلامية ومُرتَكزاتها أمر جلل وكبير، لا يصحُّ إهماله، أو غضُّ الطرف عنه لأي سبب كان، بل الواجب على الدعاة والعلماء والمُربِّين أبدًا خلق التوازن والتكامل بين أركان الدعوة ومقوماتها، والجمع بين العلم الشرعي والعمل التطوعي؛ لدفْع الناس إليها، وترغيبهم فيها، وتقديرها حق قدرها، وإلا فإن الأمة المسلمة ستظل تدور في دوامة حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

كما ينبغي علينا أن ندرك أن الغاية الكبرى، والهدف الأسمى من دعوة الناس بالعلم والعمل معًا هو: إخراجهم من الظلمات إلى النور، نعم، من ظلمات النفس والجهل والهوى إلى نور الهداية والعلم والتقوى، ومن ظلمات الضلال والكفر إلى نور الهداية والإيمان، ومن ظلمات المعاصي والشهوات إلى نور الخيرات والطاعات، ومن ظلمات الأهواء والبدعة إلى نور الاتباع والسنَّة، حتى ينالوا بذلك رحمة الله ورضوانه وجنته وكرامته في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1].

نشر في شبكة الألوكة

   
 

 

   
 

 
    العودة إلى الخلف          اطبع هذه الصفحة أضف هذا الموقع للمفضلة لديك