الرئيسية » بحوث ومقالات الشيخ

إشكالية توصيف العلاقة بين مفهوم الحرية والعبودية

 الكاتب: الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين. أما بعد:

فمن الإشكالات المعاصرة اليوم في العالم عامة وفي العالم الإسلامي والعربي خاصة، تلك التصورات والأفكار والمفاهيم الخاطئة المتسربة إلى بعض العقول، والمتعلقة بما يسميه بعضهم بـ: "الحرية الشخصية"، أو الفردية، أو "الحرية المتحللة"، وهم يعنون بذلك الشعارِ حرية التفلت من كل قيد وحد وشرط، سواء أكان دينيًّا أم عرفيًّا يمنعهم من قول أو فعل ما تشتهيه نفوسهم وأهواؤهم وأحوالهم.

فالحرية إذًا بهذا المعنى العجيب والمريب تعني الخروج والانحراف عن مسار القيم والأخلاق الإنسانية والشرعية الفاضلة، التي نزلت بها الكتب الإلهية، وجاءت بها الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كما أنها تعني أيضًا التفلت من عبودية الله رب العالمين، وترك الالتزام بأمره وحكمه وشرعه.

والذي لا ريب فيه أن مطلب "الحرية" هو من أعز المطالب وأجلها وأكرمها لعقلاء بني آدم، لكن الإشكال حقيقة إنما يكمن في التصور الخاطئ لمفهوم الحرية للإنسان؛ لأن المتأمل في كلمة الحرية يجد أنها تدور بين أمرين:

الأمر الأول: الحرية المطلقة:

التي لا تتقيد بقيد من شرع أو عقل أو عرف أو فطرة! بحيث يطلق الإنسان لنفسه العنان، ويترك لها الولوج في أبواب الشهوات والنزوات الجامحة، والانحرافات القادحة، والمسالك المشينة، فلا حرج عندئذ من مقارفة المعاصي والمحرمات.

فالذي يعبد الحجر والشجر والشمس والقمر والفروج والفئران والبقر من دون رب العالمين، حر! والذي يكسب الأموال لا ضير عليه في جمعها من حلال أو من حرام؛ لأنه حر!

والذي يقارف الفواحش من الزنا واللواط والتعدي على الحرمات، أو التحرش بالفتيات هنا وهنالك، حر!

والذي يبدل الشريعة الإلهية بشريعة أرضية وضعية شرقية أو غربية هزيلة، حر!

والذي يكتب ما يشاء، ويسب من يشاء، ويسخر ممن يشاء، ويمدح من يشاء، ويذم من يشاء، حر!

والذي يسامر المحرمات من النساء، ويسمع المنكر من ألحان الموسيقا والغناء، حر!

والتي تلبس من الملابس ما تشاء، وتخرج مع من تشاء، وتخادن كيفما تشاء، هي حرة أيضًا!

إنها حرية تلبية الغرائز والميول الذاتية دون قيد أو حد!

إنها التفلت حقًّا من كل مسؤولية ورقابة، والتفلت من الروابط الاجتماعية والحقوق والواجبات، وإن الحرية بهذا المفهوم المنكوس تعني الهاوية للبشرية، وتعني الفوضى وضياع الدين والأخلاق والقيم الفطرية والشرعية، وتعني تحول المجتمعات البشرية إلى تجمعات من عالم الأنعام السائبة الهائجة!

ولقد ساهمت بعض الحركات العالمية الماكرة في إشاعة هذه المفاهيم المغلوطة الفاضحة، خاصة بين أمة الإسلام والتوحيد؛ ليتسنى لهم قيادة زمام العالم تحت رغباتهم ومصالحهم، كما جاء في إحدى النشرات الماسونية العالمية، الصادرة في لندن لسنة 1935: "إن أمنيتنا هي تنظيم جماعة من الناس يكونون أحرارًا جنسيًّا، نريد أن نخلق الناس الذي لا يخجلون من أعضائهم التناسلية.."، ويقول أحد أقطاب المستعمِرين: "كأسٌ وغانية تفعلان في تحطيم الأمَّة المحمدية أكثرَ مما يفعله ألفُ مدفع، فأغرِقوها في حبِّ المادة والشهوات".

الأمر الثاني: الحرية المقيدة:

وهي تلك الحرية التي تهدف لبناء الشخصية المسلمة المتميزة، لبناء الإنسان، لبناء القيم والأخلاق والحضارة، والتي تنطلق من أساس العبودية لله تعالى وحده؛ لأن الإنسان في أصل خلقته ووجوده في هذا الكون عبد لله تعالى، عبودية القهر والملك، وهذه هي الأطوار التي مرت على خلق ذرية آدم، فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 - 14].

وهي عبودية جميع المخلوقات لربها سبحانه، والتي لا يخرج عنها أحد؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، وهذا لا ريب فيه؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه، ومن صور التكريم أن خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل إليه الرسل، وأنزل له الكتب، وأعطاه من سائر النعم، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، فكيف لا يكون هذا المخلوق البشري في مقام العبودية والذلة والخضوع والطاعة لموجده وخالقه؟! لهذا الإله الخالق القادر العليم الحكيم، الذي أنعم عليه بالوجود في هذا الكون الكبير؟!

إذًا الإنسان في أصله مقيد بالعبودية لربه وخالقه، مربوب له سبحانه وتعالى، وهذا القيد هو في ذاته أصل الحركة والتحرر للإنسان في هذه الحياة الدنيا..؛ لأنه تحرير للنفس البشرية من رق العبودية والذلة لغير خالقها، تحريرها من سلطان الشيطان عليها بكيده ومكره، وتحريرها من الخوف من ذوي السلطان والطاغوت الذين لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، وتحريرها من تقديس الذات والمال واللهث وراء أعراض الدنيا الفانية القليلة، وتحريرها من الخوف والطمع إلا في خالقها وموجدها سبحانه وتعالى، وآيات القرآن فيها من هذا كثير:

قال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، وقال سبحانه: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]، وقال جل ذكره: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34].

فالإنسان في مجتمعه لا يملِك ضرًّا ولا نفعًا، ولا عزًّا ولا نصرًا، ولا رفعة ولا مكانة، ولا أي شيء من ذلك إلا بإذن الله وأمره؛ ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾[آل عمران: 154]، قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 17، 18]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، وقال سبحانه عقب هذه الآية: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15].

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش))؛ رواه البخاري.

متى يكون الإنسان حرًّا؟

وجماع ما سبق أن الله تعالى خلق الإنسان وصوره وكرمه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وبهذا التصور يدخل الإنسان في عبودية الملك والقهر لربه وخالقه؛ فهو وحده من أوجده، وركَّبه وصوَّره، وهو الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده، وأما ما سوى الله، فلا يملك القدرة على الخلق والتصوير، ولا يملك العلم ولا الحكمة ولا الإرادة المطلقة، التي بها جميعًا تقوم حياة المخلوقات ومصالحها، وهذا عين ما أقره المشركون؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 9]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، وقال عز وجل: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وقال جل ذكره: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3]، فإذا أحسنا فهم هذا المعنى العميق بصورة لا لبس فيها ولا غموض، فإنه يظهر لنا المعنى الصحيح الواضح لـ: "التحرر والحرية".

وعليه، فلا يمكن للإنسان أن يوصف بالتحرر إلا إذا أسلم زمام أمره كله وناصيته لخالقه، وأعلن له الولاء والمحبة والعبودية بالذل والخضوع، والطاعة والانقياد، أما إذا أدخل مع ربه وخالقه سلطانًا آخر يذعن له ويخضع، ويستسلم له ويسمع - فقد أخرج نفسه من دائرة التحرر الواسعة إلى قيد الاستعباد والذلة لغير مالكه وسيده؛ ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 54، 55]، فكيف يكون الإنسان حرًّا متحررًا، وقد عبَّد نفسه وملَّكها لغير باريها؟! وكيف يكون حرًّا وقد أسلم زمام أمره وقياده لمخلوقات فقيرة ضعيفة لا تملِك لذاتها خَلْقًا ولا رزقًا ولا ضرًّا ونفعًا؟! فأين الحرية المزعومة حينئذٍ؟!

حقيقة الحرية: إعلان العبودية لله وحده، والتحرر مما سواه:

إذًا فالإدراك الصحيح لمعنى الحرية والتحرر، يقوم على هذا التصور الواضح للإنسان والكون والحياة، كما يقوم على قاعدة الإيمان والإذعان بطاعة الله تعالى وحده؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: 162، 163].

فالحرية في مجملها تعني: إعلان العبودية لله الواحد الأحد، والتحرر من عبودية وسلطان ما سواه من سائر المخلوقات والشهوات والنزوات والأهواء، وهذا هو المعنى الواضح القريب من نصوص الكتاب والسنَّة، وهو في ذاته ذلك المعنى الذي أدركه جيل الصحابة ومَن بعدهم.

فلنتأمل هذا المثل الذي ذكره الله تعالى في كتابه: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29].

قال ابن سعدي - رحمه الله - في تفسيره: "ضرب مثلًا للشرك والتوحيد فقال: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا ﴾ [الزمر: 29]؛ أي: عبدًا ﴿ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ﴾ [الزمر: 29] فهم كثيرون، وليسوا متفقين على أمر من الأمور، وحالة من الحالات، حتى تمكن راحته، بل هم متشاكسون متنازعون فيه، كل له مطلب يريد تنفيذه، ويريد الآخر غيره، فما تظن حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين؟ ﴿ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ ﴾ [الزمر: 29]؛ أي: خالصًا له، قد عرف مقصود سيده، وحصلت له الراحة التامة، ﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ ﴾ [الزمر: 29]؛ أي: هذان الرجلان ﴿ مَثَلًا ﴾ [الزمر: 29]؟ لا يستويان، كذلك المشرك، فيه شركاء متشاكسون، يدعو هذا، ثم يدعو هذا، فتراه لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في موضع، والموحِّد مخلص لربه، قد خلصه الله من الشركة لغيره؛ فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة؛ فـ﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ [الزمر: 29] على تبيين الحق من الباطل، وإرشاد الجهال، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29]"؛ اهـ.

وكذلك حذر سبحانه من الميل والانحراف عن صراط الله وعبوديته وطاعته؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وكما قال أيضًا لمن اعتقد دينًا يدين به سواه: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ولأنه الدين الذي ارتضاه لها: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

وقال في وصف رسالة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

ولنتأمل هذا الفهم الدقيق لربعي بن عامر - رضي الله عنه - لما سأله رستم أمير جيوش الفُرس: ما جاء بكم؟ فقال: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام".

وكذلك روى البخاري في صحيحه من حديث جبير بن حبة، قال: "فندبنا عمر، واستعمل علينا النعمان بن مقرن، حتى إذا كنا بأرض العدو، وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفًا، فقام ترجمان، فقال: ليكلمني رجلٌ منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السموات ورب الأرَضين إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا: أنه مَن قُتِل منا صار إلى الجنة في نعيم لم يرَ مثله قط، ومن بقي منا ملك رقابكم".

هذا هو التوصيف العام لحقيقة التحرر والحرية التي ينشدها الإنسان السوي، إنها الحرية الواسعة الجامعة في ظلال العبودية لله وحده، إنها الحرية المسؤولة، الخالية من الفوضى والانحراف، والزيغ والهوى، والتي يريد بعض الأدعياء أن يصرف الناس عن حقيقتها؛ ليحقق مآربه ومطامعه ورغباته ونزواته الذاتية، على حساب العبودية لله تعالى، زاعمًا أن الله تعالى قد خلق الإنسان حرًّا طليقًا، لا تكليف ولا عبادة، فهو سيد نفسه، المالك للحرية المطلقة، والسلطان الكامل في اختياراته وأفعاله كلها في هذا الكون الكبير، والله تعالى يقول في كتابه: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، وقال في موضع آخر: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36].

أما عن نظام الحريات في منهج الإسلام وشريعته، وأنواعها وحدودها وضوابطها الشرعية، فذلك حديث وشأن آخر، نأتي عليه لاحقًا إن شاء الله تعالى.

نشر في شبكة الألوكة

   
 

 

   
 

 
    العودة إلى الخلف          اطبع هذه الصفحة أضف هذا الموقع للمفضلة لديك