الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة
للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين.
أما
بعد:
فالإسلام شرع لنا كثيراً من الآداب السامية، والأخلاق
العالية، ما يصون به بشرية الإنسان، وإنسانية البشرية، حيث
يسموا به إلى آفاق عاليه من الأدب والخلق، ليكون هذا
الإنسان أهلاً للتكريم والسمو ، ورفع مكانته ودرجته على
سائر المخلوقات، والطريق الذي يسير الناس فيه شرع الإسلام
له آداباً سامية، تجعل العبد المسلم يرتقي عن كونه
مخلوقاً عادياً يسير في الطريق كما تسير سائر المخلوقات
والحيوانات، أو كما يسير غيره من البشر لكن على غير هدىً
ولا هداية توصله بخالقه سبحانه وتعالى.....
والإنسان اجتماعي بفطرته أو كما قال وأشار ابن خلدون في
مقدمته "مدني بطبعه"،... يحب الألفة والاجتماع والملاقاة
والتعاون والأخذ والعطاء والبيع والشراء، ومن هنا جاءت
شريعة الإسلام تضبط هذه العلاقات والمعاملات حتى والإنسان
يسير مع الخلق في طريقه إلى عمله وشؤونه ومصالح معاشه
ومعاده.
فقد روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما:عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ("إياكم
والجلوس في الطرقات"
فقالوا:يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإذا
أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"
قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله. قال: "غض
البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر".)
* ففي هذا الحديث عدة وقفات وآداب إسلامية نبوية سامية:
1- نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ هنا في كلامه
المبارك بصورة المحب المشفق المحذر لقومه مما يأخذهم إلى
شيء من المحاذير والمحرمات فبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إياكم
والجلوس في الطرقات"،
فهو تحذير فيه من الشدة والحرص على من يحذره وفي ذات الوقت
فيه من الحب والشفقة عليهم ما فيه من بيانه وتحذيره.
2- كما أن فيه من الحب والمؤانسة للمحذر، وفيه من
الحوار والتلاطف بالحديث الشيء الكثير حيث نرى أن النبي
صلى الله عليه وسلم بدأ معهم بأسلوب دعوي حواري جليل، لأن
الداعية ليس مجرد مبلغ لما معه من العلم والحرص والتحذير
والتبشير كذلك فحسب، إنما هو مرب ومعلم وبشر يحب الكلام
والحوار الذي يأنس ويؤنس به كغيره من سائر الناس ، وهذه
فائدة جليلة لكل داعية إلى الله تعالى.
3- وفي رد الصحابة رضي الله عنهم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، بيان وتأكيد على بشرية الإنسان وأنه قد
يلزم كثيراً بعادات ومعاملات لا يستطيع الفكاك منها، ولا
العدول عنها، وهذه مراعاة لفطرة الإنسان وما جبل عليه، ومن
هنا فالإنسان مدني بطبعه وفطرته، ولهذا قالوا
:"مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها"
،فما صادم فطرتهم ولكنه أخذ يقوم فيها ويعدل ويربي ويعلم
حتى لا تنحرف المجالس عن مسارها الصحيح، فيزل المجتمع
بأفراده إلى ما لا يحمد عاقبته، فقال لهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"فإذا
أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"
قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله.
قال: "غض
البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر".
4- ومن هنا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ويقوم
هذه المجالس والطرق حتى لا تنحرف بهم إلى شئ من الوقوع في
المحرمات والمناهي التي تنعكس على المجتمع فيكون الفساد
والانحراف الذي يفسده ويهدمه ومن هنا وضع النبي صلى الله
عليه وسلم عدة آداب جاء بعضها في أحاديث أخرى ولكن حسبنا
أن نقف سريعاً مع هذا الحديث النبوي في آداب الطريق
ومجالسه:
1- غض البصر:
وهذا الأدب النبوي بغض البصر عن المسلمين والناس في سيرهم
وغدوهم ورواحهم في الطريق، أدب رفيع في سموه، وسام في
رفعته، حيث أن المسلم لا يتطلع إلى عورات الناس ومحارهم،
من الرجال كانوا أو من النساء،ولا يتطلع كذلك ببصره
ونظراته إليهم وإلى ما عندهم من المتاع والأغراض الخاصة
بهم،فالمسلم أولاً إن جلس في الطريق أو مشى فليراع حرمة
غيره ، فلا ينظر إلى النساء من غير حاجة أجاز الشرع النظر
لأجلها، ممتثلاً قوله تعالى: "قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم"
، ... وقوله"
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن"،
وكذلك النساء مع الرجال، ... لأن تعدي حدود الله تعالى في
مسألة النظر تفضي بالعبد إلى الفتنة وما وراءها من الوقوع
في المحرمات أو الزنا عياذاً بالله تعالى، فلهذا نهى عن
إطلاق البصر من غير ضرورة أو حاجة، ولما خالف اليوم بعض
المسلمين هذا الأدب النبوي رأينا المعاكسات والكلام البذيء
للنساء والرجال هنا وهنالك، بل ووقعت حالات من الاغتصاب
للنساء والفتيات بسبب ذلك نسأل الله السلامة والعافية.
والوجه الآخر من غض البصر: أن يتحفظ المسلم عن التطلع إلى
متاع وأغراض الناس والتدخل في شؤونهم، فإن كان الناظر
فقيراً طمع ولم يتعفف، وإن كان غنياً لم يقنع بما رزق،
وأقل أحواله أن يقطع أوقاته في فضول النظر والكلام فيما لا
يعنيه من شؤون الناس وهذا أيضاً منهي عنه لما فيه من
المفاسد على قلبه وغيره، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بغض البصر، وابن القيم رحمه الله تعالى أشار إلى عدة
فوائد جليلة في غض البصر في كتاب إغاثة "اللهفان من مصايد
الشيطان" فتراجع في مكانها.
2- كف الأذى:
لأن المسلم لا يؤذى غيره ولا يتعدى عليه بكلام أو بإشارة
أو همز ولمز أو بضرب وسباب وقتل، كل ذلك لا يقع إلا ممن لا
يعرف للدين ولا للناس أدباً ولا خلقاً، فالمسلم متعفف عن
الوقوع في الحرام والأذي لغيره فلا يغتاب الناس وهم يمرون
عليه في الطريق ولا يلمز فلاناً او فلانة ، ولا يسب ولا
يشتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"
ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ"،
فلا يصح ممن يجلس في طريق الناس أن يؤذى أحداً بشيء من ذلك
أو ينم بينه وبين غيره،فيوقع الناس في الفتنة وربما أفضى
ذلك إلى القتل أحياناً وهذا مشاهد في زماننا هذا.
وكم نسمع من سباب وشتم لا يجوز شرعاً ولا خلقاً للناس بل
ولدين الله تعالى من كثير من السفهاء، فلا يتورع أحدهم من
السب والشتم، وهذا أمر يدل حقاً على فساد في الفطرة ...
وتميع في شخصية المسلم.
3- رد السلام:
وهذا من آداب الطريق الجلية التي تربط المسلم بأخيه المسلم
، وتصير الناس كأنهم أمة واحدة يعرف بعضهم بعضاً ويحب
بعضهم بعضاً ، وهنا أمور لا بد من الإشارة إليها:
منها: أن تحية الإسلام هي السلام أن يقول المسلم للمسلم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ورتب عليها الأجر
والثواب الحسن عند الله تعالى، وهذه جاء بها الإسلام
تفرداً وتميزاً عن تحايا الجاهلية التي كان العرب
يستعملونها، فيقولون: عم صباحاً أو عم مساء أو صباح الخير
ومساء الخير وما أشبه ذلك، ولا يزال عند بعض الناس شيئاً
منها إلى اليوم أو تقليداً لغير المسلمين من الغرب أو
الشرق، ويتكلمون بغير لغة العرب ولغة المسلمين ،... ولهذا
لا ينبغي أن نستبدلها بغيرها لأنها من الله السلام وهي
تحية الأنبياء والمرسلين كما أنها تحية أهل الجنة في يوم
يفوزون فيه بالنعيم المقيم، فيكف نستبدل الذي هو أدنى
بالذي هو خير، ونسير في ركب التقليد الأعمى بلا علم ولا
هدىً ولا بصيرة.
ومنها: ألا نقصر فيها لأننا نرى بعض إخواننا لا يلقون
السلام إلا معرفة فحسب فإن عرف الرجل ألقى عليه السلام،
وإلا فلا يسلم عليه، وهذا عيب وخلل في المجتمع المسلم لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نسلم على من نعرف ومن لا
نعرف من المسلمين، لكن لا نسلم على أهل الكتاب ولا نبدأ
بذلك معهم، لأنه خلاف النهي عن السلام على أهل الكتاب الذي
أمر به النبي صلى الله عليه وسلم "
لا تبدؤوا أهل الكتاب بالسلام"،
ولأن للمسلم من الحق ما ليس لغيره.
ومنها: أن السلام إنما شرع لربط الأمة الإسلامية ببعضها
فهو روح تسري فيها ليعم سلامها وأمنها على من حولهم من
الأمم ، وإلا فالإسلام ليس فيه ما يشرع لغير حكمة ولا
غاية،وأجلها على الإطلاق حسن السمع والطاعة لله ورسوله.
4- الأمر بالمعروف:
لأن المعروف دلالة على كل خير، وإرشاد لكل بر، والمعروف هو
كل ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم من
الخير والبر والتقوى، فالمسلم في طريقه لا يكون إمعة لا
يدل الناس على الخير وما فيه الصلاح والهداية لهم، وإنما
يرشد ويعلم ويحث الناس عليه، فإذا وجد مسجداً يحتاج إلى
تمام بناء أو ما شابه ذلك حثهم وأمرهم بالصدقة ،أو إذا وجد
فقيراً محتاجاً أو مريضاً أو كبير السن فإنه يأمرهم بذلك
الخير وإن استطاع هو فليكن أول فاعل لذلك الخير ليكون قدوة
للناس وإماما لهم إلى الجنة ورضوان الله تعالى، لأن الأمر
بالمعروف من أجل فرائض الإسلام التي تناسها كثير من الناس
اليوم إلا من رحم الله تعالى، فبها قام الإسلام ، وهى
خيرية هذه الأمة دون غيرها من الأمم "
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله ".
5- النهي عن المنكر:
والمنكر والمحرم كل نهي نهانا عنه الله ورسوله ، وجاءت
الشريعة بتحريمه والوعيد عليه، وكما قلنا أننا جميعاً في
سفينة واحدة فإن غرقت غرق الجميع، فالمسلم ليس بالفاقد
للبصيرة ، وليس بالمتغابي عن الواجبات والمنكرات والحرمات،
يهز كتفيه للمنكر ثم يقول أمر لا يعنيني فلم أتدخل فيه،
هذا ولا ريب نوع من السلبية القاتلة التي يكون آخرها عقاب
وغضب من الله تعالى ، ولن يلحق شخص بعينه بل على كل
المجتمع يقع العقاب، وترك النهى عن الشيء المنكر والمحرم
من أنقص صفات بني إسرائيل التي ذكرها الله تعالى لنا في
القرآن، حتى نأخذ الدرس والعبرة منهم "كانوا
لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون"
.
إن المجتمع الغربي والأوربي وغيره من المجتمعات الكافرة،
لا تلتفت كثيراً إلى شئ من هذه المنكرات أو تعبأ بوقوعها،
إلا فيما كان عائداً لهم بشئ من مصالح الدنيا الفانية
الرخيصة، فهم لا ينكرون منكراً ولا يعرفون معروفاً إلا
بقايا ورثوها وتناسوها على طول الزمان، فجل شوارعهم تحولت
إلى دور سينما، وملاهي ليلية ، ذات اليمين وذات الشمال ،
ومواقعة للفاحشة اللهم إلا خشية ملاحقة القانون الذي لا
يردعهم ولا يهذب نفوسهم وأخلاقهم.
وطرقات المسلمين اليوم قد وقعت فيها كثير من مخالفات
الشريعة وتعدي حرمات الله تعالى من الغش في البيع والشراء
، والظلم ،... وتبرج النساء والعري والتهتك المائع الرخيص
، وانتشار المقاهي ودور السينما وعلوا الأصوات بالغناء
والفحش من القول والبذيء منه ... وغير ذلك ، فالمسلمون يجب
عليهم في حياتهم عامة، وفي طرقهم خاصة النهي عن كل ما يغضب
الله تعالى، ويخالف شريعته وكتابه وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، وألا يشارك الناس بعضهم بعضاً في معاصيهم
ومحرماتهم.
بل الواجب على المسلم أن ينهي ويأمر ويرشد ويعلم ... ولكن
بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة والأسلوب المهذب
المقبول للنفوس، حتى لا يفسد من حيث يريد الإصلاح، أو يهدم
من حيث يريد البناء، فالأمر بالمعروف إنما يكون بالمعروف ،
والنهي عن المنكر إنما يكون بغير منكر ،وهذا أمر جاء به
القرآن وجاءت به السنة النبوية ويحتاج إلى مزيد بيان وبسط
في موضع آخر، والحديث جمع آداباً جليلة حقاً لو استقام
المسلمون عليها لرأينا مجتمعاً راقياً في أخلاقه ، عالياً
في آدابه ، آمنا في معاملاته، ... لأنه أقام شريعة الله
تعالى فيما أراد الله له.
ولكن حسبنا هنا هذه الوقفات السريعة مع آداب النبوة في
طريق الناس حتى يسموا المجتمع إلى آفاق عالية من الآداب
والأخلاق والمدينة الفاضلة. |