الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة
للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله أجمعين.
أما
بعد:
لقد كاد يرسخ في أذهان وعقول بعض أبناء
أمتنا ومفكريها وشبابها في الآونة الأخيرة من حياة أمتنا،
أن معركتنا المستمرة مع الباطل وحزبه، والمتمثلة في أعداء
الأمة ومنافقيها في الداخل والخارج، باتت محصورة مستقرة -
فيما يبدو - فيما يسمى بـ (الغزو
الثقافي والفكري)
المشتمل على صور وألوان من الانحراف العقدي والأخلاقي
والسياسي، وأن الغرب الأمريكي والأوربي، وكذلك العدو
الأقرب الصهيوني، كاد يتخلى ولو إلى حينٍ من الزمان عن
معركته (العسكرية)
الاستعمارية مع الأمة الإسلامية، خاصة بعد الحروب العالمية
المشتعلة في القرن الماضي، وأنه اكتفى بالغزو الثقافي
والفكري لإضعاف الأمة واستعبادها.
ولكن يبدو أن متغيرات الأحداث الكبيرة
المتتالية أظهرت خلاف ما كاد يكون راسخًا في الأذهان
والواقع، فأعداء الأمة في الشرق والغرب إنما يُهادنون
ويغازلون ويمكرون بما يحقِّق لهم مآربهم وأطماعهم، وهذه
طبيعتهم وطريقتهم، وقد ظن بعض أبناء أمتنا أن العدو لربما
لن يعود إلى (الصراع
العسكري)
باحتلال بعض الدول والبلاد العربية والإسلامية حينًا، وأنه
اكتفى بما أظهره وأعلنه من غزو فكري وثقافي في سنواته
الأخيرة.
لكن الواقع وأحداثه كاد يثبت أن العدو لا
يمكن أن يتخلى عن أسلحته ومعركته بمرور الزمن، وأن الصراع
- كذلك - لا يمكن بحال من الأحوال أن يتوقَّف على لون واحد
من الأسلحة والحروب، وهذه حقيقة كبيرة لا أجد بدًّا من
التسليم بها، والتعويل عليها؛ لأن أعداء الأمة المسلمة
إنما يستخدمون أسلحتهم وقوتهم ومخططاتهم فيما يحقق لهم
غايتهم ومرادهم، فإذا ما تغيرت الوقائع والأحداث فلا ريب
من تغير نوع الحرب وأسلحة المعركة ووسائل إدارة الصراع،
ولعل دخول الغرب وتدخُّله السافر في بلاد أفغانستان
والعراق مرة بدعوى ردع الإرهاب العالمي، ومرة للقضاء على
الخطر النووي، أعظمُ دليل وأظهره على ذلك.
فضلاً عما يجري الآن على أرض فلسطين
الجريحة المحتلة من اليهود الصهاينة، وكذلك ما يجري من
أحداث ومعارك وصراعات مسلحة على أرض سوريا ولبنان والعراق
وغيرها، وتدخلات سياسية وعسكرية خطيرة، وإثارة الفتن
والقلاقل والنزاعات، في محاولة ماكرة لإعادة تقسيم المنطقة
والبلاد العربية والإسلامية وفق المصالح والأطماع الغربية
الصليبية والصهيونية اليهودية.
• • •
لقد آمنَت الصهيونية العالمية الحديثة
وواشنطن وباريس ولندن وغيرهم من أمم الشرق والغرب أن
الإسلام هو الدين الأصلح والأقوم للبقاء في معركة
المستقبل؛ ولهذا فقد جعلوا منه العدو الأخطر والأكبر في
عقيدتهم ومخططاتهم، ولعل المستقرئ لآيات القرآن يتبين له
هذا جليًّا كالشمس في رابعة النهار، فقد قال الله تعالى في
إثبات الصراع واستمراريته، مع التحذير من الركون إليهم
واتباعهم: ﴿
إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِينًا
﴾ [النساء: 101]؛ أي: "بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم
بالله وبرسوله وترككم عبادة ما يعبدون"، كما قال الإمام
الطبري رحمه الله.
وقال تعالى: ﴿
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا
﴾ [البقرة: 109]، وهذه الرغبة منهم في تغيير أمَّة الإسلام
عن عقيدتها وشريعتها ليست رغبة نفسية كامنة دون حركة أو
عمل، كلا، بل هي رغبة وحركة وعمل دائب، كما قال تعالى: ﴿
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ
﴾ [البقرة: 217].
وفي هذه الآية يقول العلامة محمد بن علي
الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير": "ابتداء كلام يتضمن
الإخبار من الله عز وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا
يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردُّوكم عن
الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك، وتهيأ لهم منكم،
والتقيد بهذا الشرط مُشعِر باستبعاد تمكنهم من ذلك وقدرتهم
عليه، ثم حذَّر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار،
والدخول فيما يريدونه، من ردِّهم عن دينهم الذي هو الغاية
لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين، فقال: ﴿
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ
﴾ [البقرة: 217]".
وقد يظن ظان أو يتوهم أحد أن الآية تتحدث
عن أولئك المشركين والكفار الذين صَدُّوا عن الإيمان بدعوة
النبي صلى الله عليه وسلم وحاربوه، وصدوا الناس عن اتباعه
والإيمان به، وهؤلاء قد ذهبوا وماتوا، وصاروا عبرة للتاريخ
وأهل البصيرة، والحق أن هذا ظن غير سديد، وفهمٌ لحقائق
القرآن والتاريخ وسنن الله الجارية بعيدٌ؛ لأن أهل التفسير
والتأصيل ذكروا أن العبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب، وأمر آخر - أيضًا - أن الله تعالى ذكر الإخبار
والتحذير على سبيل الاستمرار بقوله: ﴿
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
﴾ [البقرة: 217].
ولهذا يقول العلامة
عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في "تيسير
الكريم الرحمن":
"... أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس
غرضهم في أموالهم وقتلهم؛ وإنما غرضهم أن يُرجِعوهم عن
دينهم، ويكونوا كفارًا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب
السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك، ساعون بما أمكنهم ﴿
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
﴾ [التوبة: 32]، وهذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون
يقاتلون غيرهم حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصًا أهل الكتاب من
اليهود والنصارى، الذين بذلوا الجمعيات، ونشروا الدعاة،
وبثوا الأطباء، وبنوا المدارس؛ لجذب الأمم إلى دينهم،
وتدخيلهم عليهم كل ما يمكنهم من الشبه التي تشكِّكهم في
دينهم".
إذًا فالمقصود هو دوام عداوة الكفار
والمشركين لأهل الإيمان والتوحيد والإسلام، واستخدامهم شتى
ألوان العداوة والمكر والصراع، فتارة بالغزو العسكري
الاحتلالي، وتارة بالغزو الاقتصادي، وتارة بالغزو الفكري
والثقافي، وتارة بالغزو الأخلاقي الإباحي، وتارة بالتدخل
السياسي والديمقراطي، إنها صور شتى، وسلسلة متتالية من
ألوان إدارة الصراع والمعركة مع المسلمين والعرب، أعلن
عنها بعض من الزعماء والكبراء والقساوسة والمنصرين
والمفكرين.
وقد قال المبشر ويليم بلقراف:
"متى تولى القرآنُ ومدينة مكة عن بلاد العرب؛ يمكننا -
حينئذٍ - أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية
بعيدًا عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن كتابه".
ويقول تاكلي: "يجب أن نستخدم القرآن - وهو
أمضى سلاح في الإسلام - ضد الإسلام نفسه؛ حتى نقضي عليه
تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس
جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا"، ويقول - أيضًا -:
"يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني؛
لأن كثيرًا من المسلمين قد زُعزِع اعتقادهم بالإسلام
وبالقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا
اللغات الأجنبية".
ويقول زويمر: "ما دام المسلمون ينفرون من
المدارس المسيحية، فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية"،
ويقول أحد الحكام الفرنسيين في الجزائر: "إننا لن ننتصر
على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية،
فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان
العربي من ألسنتهم".
ويقول كرسوا:
"جهودكم على أن تملؤوا هذا الجيل بالشهوات، قدموا له
المرأة العارية، والمجلة الخليعة، وكأس الخمر"، ويقول
المبشر براون: "إذا اتَّحَد المسلمون في إمبراطورية عربية
أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا، أما إذا بقوا
متفرقين، فإنهم يظلون حينئذٍ بلا وزن ولا تأثير".
ولهذا حذرنا ربنا من موالاتهم ومتابعتهم في
غيهم ومكرهم؛ لأنها سبيل للضلال والمروق والردة عن الدين
والحق، فقال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
﴾ [المائدة: 51].
وقال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
﴾ [آل عمران: 100]، وقال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
﴾ [آل عمران: 149].
وجاء - كذلك - التحذير والإخبار في حديث
أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لتتبعُنَّ سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى
لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قيل: يا رسول الله، اليهود
والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))؛ متفق عليه.
• • •
وإن من طبيعة الصراع بين الحق والباطل أن
يشتد ويستأسد أحيانًا، وأن يهدأ وينحسر أحيانًا أخرى، لكنه
لا يتوقف ولا ينقطع، وقد يتلوَّن - أيضًا - بحسب طبيعة
المرحلة وأدواتها، وإذا كانت طبيعة الصراع وسننه الجارية
قد ألزمت هؤلاء الأعداء الماكرين حينًا أن يكون صراعًا
فكريًّا ثقافيًّا، من خلال أبواقهم وجيوشهم من المفكرين
والكتَّاب والإعلاميين، فإنهم ما يلبثون حتى يلزمهم ذات
الصراع وتقلباته أن يكون عسكريًّا مرة أخرى؛ لأنهم لا
يقنعون أبدًا بلون واحد من ألوانه وصوره، فحيثما كانت
مصالحهم وأهدافهم كانت طبيعة الصراع وأسلحته المتنوعة،
والمتأمل في أحداث التاريخ الإسلامي ووقائعه، يدرك ذلك
أيما إدراك.
ولهذا؛ فعلى الأمة الإسلامية وقادتها أن
تفيق من سُباتها العميق، وأن تتأهب لعدوها؛ حتى لا يباغتها
على حين غفلة منها، وأن تأخذ حِذْرها وعُدَّتها، وكيف لا
وهي مأمورة بذلك في نص الوحي المنزل؟! وقد خاطبها ربها
تعالى بقوله تعالى: ﴿
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ
لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
﴾ [الأنفال: 60]، وقوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا
حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا
﴾ [النساء: 71].
وإعداد القوة اللازمة المانعة لإرهاب
الأعداء، وأخذ الحيطة والحذر، مع الاستعداد الدائم للنفير
والجهاد في سبيل الله، إنما كلها من مطالب الشريعة
ومقاصدها؛ لتحقيق العزة والرفعة والمنعة لهذه الأمة
الربانية المحمدية، والتقصير في تحقيقها لا ريب أنه نوع من
الضعف والتراجع والخِذلان، وطريق ميسور لغلبة العدو
وانتصاره، كما أن إرهاق الجيوش العربية والإسلامية
واستنزافها في الصراعات الحزبية والسياسية الداخلية هو
إضعاف وهزيمة نكراء مبكرة لها قبل لقاء العدو الحقيقي! ألا
فليستيقظ الغافلون، ألا فليعمل العاملون.
نشر في شبكة الألوكة |