الحمد
لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد -
صلَّى الله عليْه وسلَّم - عبد الله ورسوله،
أمَّا بعد:
فإن
المتأمل في خلق الإنسان ووجوده في هذه الحياة يعلم يقينًا
أنه صنعة الله تعالى، وأن الله ما أوجده عبثًا ولا لهوًا،
كما قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا
تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، بل خلقه وأوجده
لحكمة عظيمة، والإنسان إذا لم يعرف هذه الحكمة العظيمة
والمهمة الكبيرة التي جاء من أجلها، فلا يمكن له أن يعرف
حقيقة وجوده في هذه الحياة الدنيا، ولا أن يهنأ بالعيش
فيها، ولا أن يصل إلى الطمأنينة والسعادة التي يريدها، بل
يظل في الحيرة والشك والضلال، لا يعرف له هدفًا، ولا يعرف
له طريقًا، ولا يستقر على حال، ولا يعيش إلا لتحقيق شهواته
ونزواته كما تعيش الأنعام، حتى إنه ليفني حياته كلها في
اللهو واللعب، والطعام والشراب، واللهث خلف النساء والمال!
كما هو حال كثير من الناس.
مهمة الإنسان في الحياة:
ولهذا بين الله لنا هذه الحكمة الجليلة في كتابه العزيز،
حتى لا يضطرب الإنسان في حياته، ويقع في الحيرة والشك
والغفلة، ويغرق في الشهوات والملذات الفانية، فقال سبحانه
وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]،
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
[البقرة:21]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72]، فبين سبحانه أن الغاية
الكبرى من خلق الجن والإنس في هذه الحياة: هي عبادة الله
تعالى وحده لا شريك له، وأن الواجب على الإنسان إقامة
العبادة لله تعالى على الوجه الذي طلبه وأراده منه، لأن
العبادة هي حق الله على عباده المكلفين من الجن والإنس،
وهي الأمانة الكبرى التي تحملها الإنسان.
وهذا ما أكده الله تعالى في رسالة جميع الأنبياء والرسل،
كما قال نوح - عليه السَّلام - لقومه: ﴿
اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود
وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام
- لأقوامهم، وقال تعالى: ﴿ وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي
إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ
﴾ [الأنبياء: 24]، وقال تعالى: ﴿
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ
اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾
[النحل: 36]، وقال أيضًا لنبيه ورسوله محمد - صلى الله
عليه وسلم -: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]،
واليقين هنا هو: الموت، والمعنى: الزم عبادة ربك حتى يأتيك
الأجل، كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾
[الأنعام: 162 - 163].
وجاء في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -
قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال:
«يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على
الله؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن حق الله على
العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على
الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا ». فقلت: يا رسول
الله أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا».
إذن فالحكمة الكبرى من وجودنا في هذه الحياة هي: عبادة
الله تعالى وحده لا شريك له، فهي التي أخذ الله بها
الميثاق, وأرسل بها رسله، وأنزل كتبه, ولأجلها خلقت الدنيا
والآخرة، والجنة والنار، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن
تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172].
ولهذا فإن الواجب على الإنسان أن يجتهد في تحصيل هذه
العبادة على الوجه الصحيح الذي أراده الله تعالى، حتى يكون
جديرًا بالاستخلاف في الأرض، وأهلا لكرامة الله في الآخرة،
كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:30].
معنى العبادة وشمولها:
وهنا سؤال مهم لا بد منه: إذا كان الله تعالى خلقنا
لعبادته، فما معنى العبادة وما حقيقتها؟ وهل هي محصورة في
جانب معين من جوانب الحياة، أم أنها شاملة لكل مناحي
الحياة؟
نقول أولًا: العبادة معناها:
الطاعة المطلقة لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، مع
التذلل والخضوع، وكمال المحبة له سبحانه، وعرفها أيضًا شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه
الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وهذا
ما أوجزه الحكمي بقوله:
ثم العبادة هي اسم جامع ... لكل ما يرضى الإله السامع
وعلى هذا فإن الصلاة والزكاة والصيام والحج تسمى عبادات،
ولكن مفهوم العبادة لا يقتصر على هذه الشعائر والأعمال
الصالحة وحدها، بل يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من أعمال
القلوب والجوارح، كالخوف، والرجاء، والمحبة، والخشية،
والإنابة، والتوكل، والدعاء، والذبح، والنذر، والاستعاذة،
والاستعانة، والاستغاثة، ويدخل فيها أيضًا صدق الحديث،
وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء
بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد
للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن
السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر،
والقراءة.. وأمثال ذلك من أنواع العبادات كما قال شيخ
الإسلام.
وبهذا المفهوم الشامل تكون
العبادة دائرة واسعة، تشمل الفرائض والأركان، والنوافل،
والمعاملات، والأخلاق، وتتسع لتشمل الحياة كلها، كما تشمل
كيان الإنسان كله في الباطن والظاهر، وبهذا تكون حياة
الإنسان المسلم وحركاته وسكناته عبادة لخالقه، وقد بين
الله تعالى هذا الشمول في كتابه العزيز فقال سبحانه
وتعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 -
163].
فإذا انطلق الإنسان المسلم في حياته إلى كشف كربة مكروب،
أو مسح دمعة يتيم، أو إعانة مسكين، أو إغاثة ملهوف، أو
تعليم جاهل، أو إرشاد ضال، أو نصرة مظلوم، أو نصرة
المستضعفين في الأرض، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو
كلمة حق عند سلطان جائر، أو إماطة الأذى من طريق الناس، أو
عمل نافع يحتسب أجره وثوابه، فهو في كل ذلك في عبادة لله
تعالى، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ
الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ
إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:
177].
وأما حصر العبادة ومفهومها في شرائع أو شعائر بعينها
كالصلاة والزكاة والصيام والحج وتلاوة القرآن والأذكار
والاستغفار دون غيرها من أنواع العبادات، فهذا فهم قاصر
وخاطئ عن إدراك المعنى الحقيقي للعبادة التي أرادها رب
العالمين، بل هو انحراف عن فهم حقيقة دين الإسلام نفسه،
لأن الإسلام دين حياة وعمل، والعبادة فيه ليست محصورة كما
يتصور بعض الجهال في الشعائر التعبدية وحدها، لأن هذا فهم
مبتور للعبادة وحقيقتها، والله تعالى يقول: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ
مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:85].
فالذي أمرنا بالطهارة والوضوء عند كل صلاة بقوله: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:6]، هو الذي أمرنا
بالحكم بما أنزل الله في جميع شئون حياتنا، مع الخضوع له،
والتحاكم إليه، والإعراض عن كل تشريع يخالفه بقوله تعالى:
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾
[المائدة: 49]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾
[النساء: 58]، وقوله سبحانه: ﴿أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾ [الشورى:21]، وقوله تعالى: ﴿أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
والذي أمرنا بالصيام بقوله: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾
[البقرة:183]، هو الذي أمرنا بالقصاص بقوله: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة:178].
والذي أمرنا بالزكاة بقوله: ﴿خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم
بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]، هو الذي
أمرنا بترك التعامل بالربا وأكل أموال الناس بالباطل
بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً
وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل
عمران: 130]، وقوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾
[البقرة: 278]، وقوله: ﴿وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾
[البقرة:275]، وقوله: ﴿وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً
مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:188].
والذي أمرنا بالحج وقصد بيته الحرام وزيارته والطواف به
بقوله: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾
[آل عمران:97]، هو الذي أمرنا بترك عبادة الأصنام والأموات
وتعظيمها بقوله: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن
دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن
فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾
[يونس: 106]، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأعراف:194].
والذي أمرنا بالعبادة والركوع والسجود له وفعل الخير
بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[الحج: 77]، هو الذي أمرنا بترك موالاة الكافرين: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ﴾
[المائدة: 51]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 1]، وقوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا
غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 13].
والذي أمرنا بالصلاة والسلام على نبيه الكريم محمد - صلى
الله عليه وسلم - بقوله: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، هو الذي أمرنا بطاعته
وعدم الخروج عن سنته وشريعته بقوله: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:
59]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللهَ﴾ [الحشر:7]، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[النور:63]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
[النور: 51].
والذي أمرنا بحسن العشرة مع النساء والأزواج بقوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:19]، هو الذي أمر المرأة
المسلمة بالحجاب والاحتشام وعدم التبرج بالزينة، والقرار
في البيت إلا لمصلحة أو ضرورة معتبرة بقوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا
يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾
[الأحزاب: 59]. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾
[الأحزاب: 53]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ
الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾
[الأحزاب: 33].
إذن فحصر العبادة في بعض الشعائر التعبدية وحدها، أمر
مخالف لآيات القرآن الكريم، لأن الله تعالى كما ذكرنا جعل
العبادة شاملة لكل مناحي الحياة البشرية، فيدخل فيها
الفرائض والنوافل والمعاملات والأخلاق وغيرها.
شروط قبول العبادة:
فإذا تحقق الإنسان المسلم بهذا الفهم الصحيح الشامل لمعنى
العبادة وحقيقتها، فعليه أن يعلم أيضًا أن هذه العبادة لا
يقبلها الله تعالى منه إذا هو عملها إلا بشروط مهمة لا بد
من وجودها.
الشرط الأول: الإيمان بالله تعالى وتوحيده:
فالله تعالى لا يقبل من الإنسان عمله وعبادته إلا إذا كان
مؤمنًا بالله تعالى حق الإيمان، ومؤمنًا بأسمائه الحسنى
وصفاته العلا، ومؤمنًا بما أوجب الله تعالى عليه الإيمان
به، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل والقدر واليوم
الآخر، وهذه تسمى بأركان الإيمان وأصوله، فإذا آمن الإنسان
بها حق الإيمان واعتقدها فلا شك أن الله تعالى يقبل منه
عمله وعبادته، أما إذا لم يتحقق الإنسان بهذا الإيمان،
ووقع في الكفر والشرك والضلال، فالله تعالى لا يقبل منه
صرفًا ولا عدلًا، لأن الإيمان أساس الأعمال وأصلها، ولا
عبرة لعمل أو عبادة عند الله من غير إيمان، وهذا ما أكده
سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في كثير من الآيات، كقوله
تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]،
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ
الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف:107].
وقوله تعالى في الكافرين: ﴿وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]، وقوله تعالى: ﴿مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾
[إبراهيم:18]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً﴾ [النور:39]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]،
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا﴾
[النساء: 136]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
[آل عمران: 85].
وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:
قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم،
ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل
يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»، وروى البخاري من
حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل:
أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله». قيل: ثم ماذا؟
قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج
مبرور»، وجاء في صحيح مسلم من حديث جبريل المشهور: «قال:
فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه،
ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
الشرط الثاني: الإخلاص لله تعالى في العمل والعبادة:
لقوله تعالى: ﴿أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر:3]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وقوله تعالى: ﴿مَنْ
كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا
وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى:
20]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ
يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا
وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾
[الكهف: 110].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله
تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه
معى غيرى، تركته وشركه»، وروى النسائي بسند جيد عن أبي
أمامة الباهلي، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ماله؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا شيء له»
فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: «لا شيء له»، ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل
إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه».
وروى الشيخان في الصحيحين عن أبي موسى عبد الله بن قيس
الأشعري - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل
رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله».
وروى الشيخان أيضًا في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله
عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من
سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به»، وفيهما أيضًا عن
علقمة بن وقاص الليثي، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
«إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته
إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته
إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر
إليه». وفي رواية: «يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية»،
وفي رواية: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما
نوى».
الشرط الثالث: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في العمل
والعبادة:
ولا تتحقق المتابعة إلا بمعرفة الصفة والكيفية التي أدى
بها النبي هذه العبادة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ﴾ [الحشر:7]، وقال
تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63]، وروى
البخاري في صحيحه عن مالك بن الحويرث الليثي - رضي الله
عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا
كما رأيتموني أصلي». رواه البخاري، وروى مسلم في صحيحه عن
أبي الزبير، أنه سمع جابرا - رضي الله عنه - يقول: رأيت
النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر،
ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد
حجتي هذه».
وروى الشيخان في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها، قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية لمسلم:
«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
وهذه الشروط التي ذكرناها تسمى بالشروط العامة لقبول العمل
والعبادة عند الله تعالى، وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذه
الشروط هي المشار إليها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ
أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾
[الإسراء: 19]، وهناك شروط أخرى خاصة بكل عبادة بمفردها،
وهي التي تكلم فيها الفقهاء في كتب الفقه والمذاهب، كشروط
الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والبيوع،
والمعاملات، والأنكحة، وغيرها.
أثر الاستقامة على العبادة:
فاحرص أخي المسلم على معرفة حكمة وجودنا في هذه الحياة،
ومهمة الإنسان فيها، ألا وهي عبادة الله تعالى، واحرص
أيضًا على معرفة معنى العبادة وحقيقتها وشروطها، وشمولها
لكل مناحي الحياة، لأن الإنسان إذا حقق الإيمان بخالقه،
ولزم ذكره وعبادته، واستقام على دينه وشريعته، فإنه يكون
قد جمع أسباب السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، والله
تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا في هذه الحياة الدنيا،
كما قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمَنْ
أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾
[الإسراء: 19]، وقال تعالى: ﴿مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولَئِكَ لَهُمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ
نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف:
31،30]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ
لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ
فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾ [الكهف:
108،107]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس: 9].
وحسب الإنسان في هذه الحياة إذا تعلق بعبادة خالقه أن
تغمره السكينة والطمأنينة، فإن العبادة طمأنينةٌ للنفس،
وراحةٌ للروح، وانشراحٌ للصدر، وزيادةٌ لرصيد الإيمان
وحقيقته في القلب، وبها تزال الهموم والأحزان والأكدار،
فهي جُنة المؤمنين وملاذ أرواحهم، فلا تعصف بهم الأهواء،
ولا تزعزعهم الفتن والابتلاءات مهما تكالبت وتكاثرت، لأن
الطمأنينة سكنت قلوبهم، كما قال جَل ذِكره: ﴿الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
[الرعد:28]، وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ
* إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3].
وروى أبو داود بإسناد جيد عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال
رجل: قال مسعر أراه من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم
عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول: «يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها»، وفي رواية
أخرى: عن عبد الله بن محمد ابن الحنفية، قال: انطلقت أنا
وأبي، إلى صهر لنا من الأنصار نعوده فحضرت الصلاة، فقال
لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح، قال:
فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله عليه وسلم -،
يقول: «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة».
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما قال عبد قط،
إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك،
ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو
لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من
خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن
ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب
الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا» , قالوا: يا رسول الله,
ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟، قال: «أجل، ينبغي لمن
سمعهن أن يتعلمهن» رواه ابن حبان وأحمد، وصححه الألباني.
أثر الانحراف والإعراض عن العبادة:
أما إذا أعرض الإنسان عن معرفة خالقه وعبادته، والطريق
الموصلة إلى جنته، ووقع في الغفلة والضلال والنسيان، وتابع
الهوى والشيطان، وأخذ يلهث وراء الشهوات المحرمة واللذات
الفانية، فإن الله تعالى يعاقبه بصنوف وألوان من العقوبات
في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿مَنْ
كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا
وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى:
20]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا
إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾
[السجدة: 22]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ
عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا
عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى
فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً﴾ [الكهف:57].
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون﴾ [الأنعام: 44]،
وقال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ
نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا
كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف:51]،
وقال سبحانه تعالى: ﴿فَذُوقُوا
بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا
نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:14]، وقال جل ذكره: ﴿وَقِيلَ
الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ﴾ [الجاثية: 34]، وقال جل ذكره: ﴿نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة:67]، وقال تعالى: ﴿وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
[الحشر:19].
فمن نسي يُنسى، فالجزاء من جنس العمل، ونسيان الله لعبده
يعني أنه في موقف الطرد من رحمته، والبعد عن مغفرته وجنته،
وأنه موكولٌ إلى نفسه، ولهذا فإن الغافلين عن ذكر الله
وعبادته ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها، وعذاب الآخرة
ونكالها، فمن يعمَ عن ذكر ربه يقيض له شيطانًا مريدًا في
الدنيا يوغل به في متاهاتِ الإغواء والضلال والانحراف،
يقارنه ويصاحبه، ويعده ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزًا،
ويصده عن الخير والهدى صدًا، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف:36].
وأما في الآخرة فإن الله تعالى يبين لنا المصير المحتوم
لهؤلاء الغافلين المعرضين فيقول: ﴿وَمَنْ
يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾
[الجن: 17]، ويقول سبحانه: ﴿فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:
123 - 124]، ويقول تعالى: ﴿مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ
الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ
هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ
عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ [الإسراء:18-20]، وروى
البخاري في صحيحه من حديث عدي بن حاتم: «ولَيَلقَينّ الله
أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم
له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا
رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب».
نشر في
شبكة الألوكة
* * * |